احسان صديق إخوتي الكرام اقدم لكم هذه البيانات البديعة من الإمام النورسي وارجوا عظيم الإستفادة ان في نظم القرآن جزالة خارقة، وقد بيّن كتاب (اشارات الاعجاز في مظان الايجاز) من أوله الى آخره هذه الجزالة والمتانة في النظم، اذ كما أن عقارب الساعة العادَّة للثواني والدقائق والساعات يكمل كل منها نظام الآخر، كذلك النظم في هيئات كل جملة من جمل القرآن، والنظام الذي في كلماته، والانتظام الذي في مناسبة الجمل كل تجاه الآخر، وقد بُيّن كل ذلك بوضوح تام في التفسير المذكور. فمن شاء فليراجعه ليتمكن من أن يشاهد هذه الجزالة الخارقة في أجمل صورها، إلاّ اننا نورد هنا مثالين فقط لبيان نظم الكلمات المتعانقة لكل جملة (والتي لا يصلح مكانها غيرها بتناسق وتكامل). المثال الاول: قوله تعالى: (ولـئـن مسّـْتهـم نـفحـةٌ مـن عـذابِ ربـّك)(سورة الانبياء:46) هذه الجملة مسوقة لإظهار هول العذاب، ولكن باظهار التأثير الشديد لأقله، ولهذا فان جميع هيئات الجملة التي تفيد التقليل تنظر الى هذا التقليل وتمده بالقوة كي يظهر الهول: فلفظ color=blue[/color] هو للتشكيك، والشك يوحي القلة. ولفظ color=blue[/color] هو اصابة قليلة، يفيد القلة أيضاً. ولفظ color=blue[/color] مادته رائحة قليلة، فيفيد القلة، كما أن صيغته تدل على واحدة، أي واحدة صغيرة، كما في التعبير الصرفي - مصدر المرة - فيفيد القلة.. وتنوين التنكير في (نفحةٌ) هي لتقليلها، بمعنى أنها شئ صغير الى حد لا يُعلم، فيُنكر. ولفظ color=blue[/color] هو للتبعيض، بمعنى جزء، فيفيد القلة. ولفظ color=blue[/color] هو نوع خفيف من الجزاء بالنسبة الى النكال والعقاب، فيشير الى القلة. ولفظ color=blue[/color] بدلاً من: القهار، الجبار، المنتقم، فيفيد القلة أيضاً وذلك باحساسه الشفقة والرحمة. وهكذا تفيد الجملة أنه: اذا كان العذاب شديداً ومؤثراً مع هذه القلة، فكيف يكون هول العقاب الإلهي؟ فتأمل في الجملة لترى كيف تتجاوب الهيئات الصغيرة، فيُعين كلٌ الآخر، فكلٌ يمد المقصد بجهته الخاصة. هذا المثال الذي سقناه يلحظ اللفظ والمقصد. المثال الثاني: قوله تعالى: (ومما رزقناهم يُنفقون)(البقرة: 3) فهيئات هذه الجملة تشير الى خمسة شروط لقبول الصدقة: الشرط الاول: المستفاد من " من " التبعيضية في لفظ (مما) أي: أن لا يبسط المتصدق يده كل البسط فيحتاج الى الصدقة. الشرط الثاني: المستفاد من لفظ (رزقناهم) أي: أن لا يأخذ من زيد ويتصدق على عمرو، بل يجب أن يكون من ماله، بمعنى: تصدقوا مما هو رزق لكم. الشرط الثالث: المستفاد من لفظ (نا) في (رزقنا) أي: أن لا يمنَّ فيستكثر، أي: لا منّة لكم في التصدق، فأنا أرزقكم، وتنفقون من مالي على عبدي. الشرط الرابع: المستفاد من (ينفقون) أي: أن ينفق على مَن يضعه في حاجاته الضرورية ونفقته، وإلاّ فلا تكون الصدقة مقبولة على مَن يصرفها في السفاهة. الشرط الخامس: المستفاد من (رزقناهم) أيضاً. أي: يكون التصدق باسم الله، أي: المال مالي، فعليكم أن تنفقوه باسمي. ومع هذه الشروط هناك تعميم في التصدق، اذ كما أن الصدقة تكون بالمال، تكون بالعلم ايضاً، وبالقول والفعل والنصيحة كذلك، وتشير الى هذه الاقسام كلمة (ما) التي في (مما) بعموميتها. وتشير اليها في هذه الجملة بالذات، لانها مطلقة تفيد العموم. وهكذا تجُود هذه الجملة الوجيزة - التي تفيد الصدقة - الى عقل الانسان خمسة شروط للصدقة مع بيان ميدانها الواسع، وتشعرها بهيئاتها. وهكذا، فلهيئات الجمل القرآنية نظمٌ كثيرة أمثال هذه. وكذا للكلمات القرآنية أيضاً ميدان نظم واسع مثل ذلك، كل تجاه الآخر. وكذا للكلام القرآني ولجمله دوائر نظم كتلك. فمثلاً: قوله تعالى: (قل هو الله أحد_ الله الصمد_ لم يلد ولم يولد_ ولم يكن له كفواً أحد). هذه الآيات الجليلة فيها ست جمل: ثلاث منها مثبتة وثلاث منها منفية، تثبت ست مراتب من التوحيد كما تردّ ستة أنواع من الشرك. فكل جملة منها تكون دليلاً للجمل الاخرى كما تكون نتيجة لها. لان: لكل جملة معنيين، تكون باعتبار أحدهما نتيجة، وباعتبار الآخر دليلاً. أي أن سورة الاخلاص تشتمل على ثلاثين سورة من سور الاخلاص. سور منتظمة مركبة من دلائل يثبت بعضها بعضاً، على النحو الآتي: (قل هو الله): لانه أحد، لانه صمد، لانه لم يلد، لانه لم يولد،لانه لم يكن له كفواً أحد. وكذا: (ولم يكن له كفواً أحد): لانه لم يولد، لانه لم يلد، لانه صمد، لانه أحد، لانه هو الله. وكذا: (هو الله) فهو أحد، فهو صمد، فاذاً لم يلد، فاذاً لم يولد، فاذاً لم يكن له كفواً أحد. وهكذا فقس على هذا المنوال.