(انما اَمُرهُ اِذَا ارادَ شيئاً اَن يقولَ لهُ كُنْ فيكون _ فسُبْحان الذي بيده ملكوتُ كلِّ شيءٍ واليهِ تُرجعون)(يس: 82 ـ 83)
كتبت هذه الكلمة لتمنح نفسي العمياء بصيرة، ولتبدد الظلمات من حولها، ولتكون مبعثاً لاطمئنانها، وذلك باراءتها اربع أشعات من نور هذه الآية الكريمة.
الشعاع الاول:
يا نفسي الجاهلة تقولين: أن أحدية ذات الله سبحانه وتعالى، مع كلية أفعاله.. ووحدة ذاته مع عمومية ربوبيته دون معين.. وفرديته مع شمول تصرفاته دون شريك.. وحضوره في كل مكان مع تنزّهه عن المكان.. ورفعته المطلقة مع قربه الى كل شئ.. ووحدانيته مع ان كل شئ في قبضته بالذات.. جميعها من الحقائق القرآنية.. وتقولين: ان القرآن حكيم، والحكيم لا يحمّل العقل ما لايقبله. بيد أن العقل يرى منافاة ظاهرة في هذه الامور. لذا اطلب ايضاحاً يسوق العقل الى التسليم.
الجواب: مادام الأمر هكذا، وتطلبين ذلك لبلوغ الاطمئنان، فاننا نقول مستندين الى فيض القرآن الكريم:
ان اسم »النور« وهو من الاسماء الحسنى قد حلّ كثيراً من مشكلاتنا، ويحلّ باذن الله هذه المسألة ايضاً.
نقول كما قال الامام الرباني احمد الفاروقي السرهندي، منتقين طريق التمثيل الواضح للعقل والمنور للقلب:
نه شبم نه شب برستم من غلام شمسم از شمس مى كويم خبر[1]
لما كان التمثيل اسطع مرآة عاكسة لإعجاز القرآن، فنحن ايضاً سننظر الى هذا السر من خلال التمثيل وذلك:
ان شخصاً واحداً يكسب صفة كلية بوساطة مرايا مختلفة، فبينما هو جزئي حقيقي يصبح بمثابة كلي مالك لشؤون شاملة عامة، فمثلاً:
الشمس، وهي جزئي مشخّص، ولكن بوساطة الاشياء الشفافة تصبح بحكم الكلي حتى انها تملأ سطح الارض بصورها وانعكاساتها، بل تكون لها من الجلوات بعدد القطرات والذرات الساطعة.
وحرارة الشمس وضياؤها، وما فيه من الوان سبعة، يحيط كل منها بالاشياء التي تقابلها ويشملها ويعمّها وفي الوقت نفسه فان كل شئ شفاف يخبئ في بؤبؤ عينه ـ مع صورة الشمس ـ الحرارة والضياء والالوان السبعة ايضاً، جاعلاً من قلبه الطاهر عرشاً لها.
بمعنى ان الشمس مثلما تحيط بصفة واحديتها بجميع الاشياء التي تقابلها، فهي من حيث أحديتها توجد بنوعٍ من تجلي ذاتها في كل شئ مع (خاصيتها) واوصافها الكثيرة.
وما دمنا قد انتقلنا من التمثيل الى التمثّل، فسنشير الى ثلاثة انواع من التمثيل ليكون محور مسألتنا هذه.
اولها: الصور المنعكسة للاشياء المادية الكثيفة، هي غيرٌ وليست عيناً، وهي موات وليست مالكةً لأية خاصية غير هويتها الصورية الظاهرية.
فمثلاً: اذا دخلتَ ـ يا سعيد ـ الى مخزن المرايا، فيكون سعيدٌ واحد ألف سعيد، ولكن الذي يملك الحياة من هذه الالوف، هو أنت فقط لا غير، والبقية أموات ليست لهم خواص الحياة.
ثانيها: الصور المنعكسة للنورانيات المادية؛ هذه الصور المنعكسة ليست عيناً، وليست غيراً في الوقت نفسه، اذ لا تستوعب ماهية النوراني المادية، ولكنها مالكة لأكثر خواص ذلك النوراني، فتعتبر ذات حياة مثله.
[1]بيت بالفارسية يعني: لست ليلاً ولستُ عابد ليل أنا خادم شمس الحقيقة ومنها آتيكم بالخبر.
ولعل المقصود: ان الامور واضحة جلية عندي لا لبس فيها قطعاً. ــ المترجم.
فمثلاً: عندما تنشر الشمس اشعتها على الكرة الارضية تظهر صورتها في كل مرآة، فكل صورة منعكسة منها تحمل ما يماثل خصائص الشمس، من ضوء والوان سبعة. فلو افترضت الشمس ذات شعور، واصبحت حرارتها عين قدرتها، وضياؤها عين علمها، والوانها السبعة صفاتها السبع، لكانت توجد تلك الشمس الوحيدة الفريدة في كل مرآة، في اللحظة نفسها، ولاتخذت من كل منها عرشاً لها يخصها، ومن كل منها نوعاً من هاتف، فلا يمنع شئ شيئاً. ولأمكنها ان تقابل كلاً منا بالمرآة التي في ايدينا، ومع اننا بعيدون عنها، فانها اقرب الينا من انفسنا.
ثالثها: الصور المنعكسة للارواح النورانية؛ هذه الصور حية، وهي عينٌ في الوقت نفسه، ولكن لأن ظهورها يكون وفق قابليات المرايا، فالمرآة لا تسع ماهية الروح بالذات. فمثلاً: في الوقت الذي كان سيدنا جبريل عليه السلام يحضر في مجلس النبوة على صورة الصحابي دحية الكلبي، كان يسجد في الحضور الإلهي باجنحته المهيبة امام العرش الاعظم، وهو في اللحظة نفسها موجود في اماكن لا تعدّ ولا تحصى، اذ كان يبلّغ الاوامر الآلهية. فما كان فعلٌ يمنع فعلاً.
ومن هذا السر نفهم كيف يسمع الرسول صلى الله عليه وسلم ، صلوات امته كلها، في الانحاء كافة، في الوقت نفسه، اذ ماهيته نور وهويته نورانية.. ونفهم كذلك كيف انه صلى الله عليه وسلم يقابل الاصفياء يوم القيامة في وقت واحد، فلا يمنع الواحدُ الآخر.. بل حتى الاولياء الذين اكتسبوا مزيداً من النورانية والذين يطلق عليهم اسم "الابدال" هذا القسم يقال انهم يشاهَدون في اللحظة نفسها، في اماكن متعددة. ويروى عنهم أن الشخص نفسه ينجز اعمالاً متباينة كثيرة جداً. اذ كما يصبح الزجاج والماء وامثالهما من المواد مرايا للاجسام المادية، كذلك يصبح الهواء والاثير وموجودات من عالم المثال، بمثابة مرايا للروحانيات ووسائط سير وتجوال لها في سرعة البرق والخيال. فتتجول تلك الروحانيات وتسيح في تلك المنازل اللطيفة والمرايا النظيفة بسرعة الخيال، فتدخل في الوف الاماكن في آن واحد.
فمخلوقات عاجزة ومسخّرة كالشمس، ومصنوعات شبه نورانية مقيدة بالمادة كالروحاني ان كان يمكن ان يوجد في موضع واحد وفي عدة مواضع في الوقت نفسه، بسر النورانية، اذ بينما هو جزئي مقيد يكسب حكماً كلياً مطلقاً، يفعل باختيار جزئي اعمالاً كثيرة في آن واحد.. فكيف اذن بمن هو مجرد عن المادة ومقدس عنها، ومن هو منزّه عن التحديد بالقيد وظلمة الكثافة ومبرأ عنها.. بل ما هذه الانوار والنورانيات كلها الاّ ظلال كثيفة لأنوار اسمائه الحسنى، بل ما جميع الوجود والحياة كلها، وعالم الارواح وعالم المثال الاّ مرايا شبه شفافة لإظهار جمال ذلك القدوس الجليل الذي صفاته محيطة بكل شئ وشؤونه شاملة كل شئ.. تُرى اي شئ يستطيع ان يتستر عن توجه احديته التي هي ضمن تجلي صفاته المحيطة وتجلي افعاله بارادته الكلية وقدرته المطلقة وعلمه المحيط.. واي شئ يصعب عليه واي شئ يستطيع أن يتخفى عنه.. واي فرد يمكنه ان يظل بعيداً عنه.. واية شخصية يمكنها ان تقترب منه دون ان تكتسب الكلية؟
نعم! ان الشمس بوساطة نورها الطليق غير المقيد، وبوساطة صورتها المنعكسة غير المادية، اقرب اليك من بؤبؤ عينك، ومع هذا فانت بعيد عنها بعداً مطلقاً، لأنك مقيد، فيلزم التجرد من كثير من القيود، وقطع كثير من المراتب الكلية وتجاوزها كي تتقرب اليها، وهذا يستلزم ان تكبر كبر الكرة الارضية وتعلو علو القمر، ومن بعد ذلك يمكن ان تتقرب من المرتبة الاصلية للشمس ـ الى حدٍ ما ـ وتتقابل معها دون حجاب.
فكما ان الامر هكذا في الشمس، كذلك في الجليل ذي الجمال، والجميل ذي الكمال (ولله المثل الاعلى) فهو أقرب اليك من كل شئ، وانت بعيد عنه سبحانه بعداً لا حد له. فان كانت لك قوة في القلب، وعلوٌ في العقل، فحاول ان تطبق النقاط الواردة في التمثيل على الحقيقة.
بديع الزمان الإمام النورسي