(والارضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الماهِدُون) (الذاريات: 48)
لقد تجلت لي نكتة من نكات هذه الآية الكريمة وتجلّ من تجليات اسم الله "القدوس" وهو الاسم الاعظم أو أحد انوراه الستة، وانا نزيل سجن "اسكي شهر" أواخر شهر شعبان المبارك. فبيّن لي: الوجود الإلهي بوضوح تام، وكشف لي: الوحدانية الربانية بجلاء، كما يأتي:
لقد تراءى لي هذا الكون وهذه الكرة الارضية كمعمل عظيم دائب الحركة، وشبيهة بفندق واسع، او دار ضيافة تُملأ وتُخلى بلا انقطاع علماً ان دار ضيافةٍ بهذه السعة وبهذه الكثرة الكاثرة من الغادين والرائحين، تمتلئ بالنفايات والانقاض، ويصيب كل شئ بالتلوث، وتضيق فيها اسبابُ الحياة. فان لم تعمل يد التنظيف والتنسيق فيها عملاً دائماً ادّت تلك الاوساخ الى اختناق الانسان واستحالة عيشه...
بيد اننا لا نكاد نرى في معمل الكون العظيم هذا، وفي دار ضيافة الكرة الارضية هذه أثراً للنفايات، كما انه لا توجد في أية زاوية من زاواياهما مادة غير نافعة، أو غير ضرورية، أو اُلقِيَتْ عبثاً، حتى ان ظهرت مادةٌ كهذه سرعان ما تُرمى في مكائن تحويل بمجرد ظهورها، تُحيلها الى مادة نظيفة...
فهذا الامر الدائب يدلنا على: ان الذي يراقب هذا المعمل انما يراقبه بكل عناية واتقان، وان مالكه يأمر بتنظيفه وتنسيقه وتزيينه على الدوام حتى لا يُرى فيه - رغم ضخامته - أثرٌ للقاذورات والنفايات التي تكون متناسبةً مع كُبر المعمل وضخامته. فالمراعاة بالتطهير اذن مستمرة، والعناية بالتنظيف دائمة ومتناسبة مع ضخامة المعملوسعته، لأن الانسان الفرد إن لم يستحم ولم يقم بتنظيف غرفته خلال شهر، لضاقت عليه الحياة.. فكيف بنظافة قصر العالم العظيم؟!
اذن فالطُهر والنقاء والصفاء والبهاء المشاهَد في قصر العالم البديع هذا ما هو الاّ نابع من تنظيف حكيمٍ مستمر، ومن تطهير دقيق دائم.. فلولا هذه المراقبة المستديمة للنظافة، والعناية المستمرة بالطهر، لكانت تختنق على سطح الارض - باجوائها الموبوءة - مئاتُ الآلاف من الاحياء خلال سنة.. ولولا تلك المراقبة الدقيقة والعناية الفائقة في أرجاء الفضاء الزاخرة بالكواكب والنجوم والتوابع المعرّضة للموت والاندثار، لكانت انقاضُها المتطايرة في الفضاء تحطم رؤوسَنا ورؤوس الاحياء الاخرى، بل رأس الدنيا! ولكانت تمطر علينا كتلاً هائلة بحجم الجبال، وتُرغمنا على الفرار من وطننا الدنيوي! بينما لم تسقط منذ دهور سحيقة من الفضاء الخارجي - نتيجة الاندثار - سوى بضعة نيازك، ولم تُصب احداً من الناس، بل كانت عبرةً لمن يعتبر! ولولا التنظيف الدائب والتطهير الدائم في سطح الارض، لكانت الانقاض والاوساخ والاشلاء الناتجة من تعاقب الموت والحياة اللذين يصيبان مئات الالوف من أمم الاحياء، تملأ البر والبحر معاً، ولكانت القذارة تصل الى حد ينفر كلُّ من له شعور ان ينظر الى وجه الارض الدميم، بل كان يسوقه الى الفرار منها الى الموت والعدم ناهيك عن حبه وعشقه.
نعم، مثلما ينظف الطيرُ اجنحته بسهولة تامة أو يطهِّر الكاتب صحائف كتابه بيُسر كامل، فان اجنحة هذه الارض الطائرة - مع الطيور السماوية في الفضاء - وصحائف هذا الكتاب العظيم - أعني الكون - ينظَّفان ويطهَّران ويجمَّلان ويزيّنان بمثل تلك السهولة واليسر، بل ان تطهير سطح الارض هذا وتنظيفه وتنسيقه وتزيينه هو من كمال الاتقان ما يجعل الذين لا يرون - بايمانهم - جمال الآخرة يعشقون هذا الجمال وهذه النظافة لهذا العالم الدنيوي بل قد يعبدونه!
اذن فقصر العالم الباذخ هذا، ومعمل الكون الهائل هذا، قد حَظَيا بتجلٍ من تجليات اسم الله "القدوس" عليهما، حتى انه عندما تصدر الاوامر الإلهية المقدسة الخاصة بالتطهير والتنظيف لا تصدر للحيوانات البحرية الكبيرة المفترسة، المؤدية وظيفة التنظيف والصقور البرية الجارحة وحدها، بل يستمع لها ايضاً أنواع الديدانوالنمل التي تجمع الجنائز وتقوم بمهمة موظفي الصحة العامة الراعين لها في هذا العالم، بل تستمع لهذه الاوامر التنظيفية حتى الكريات الحمراء والبيضاء الجارية في الدم فتقوم بمهمة التنظيف والتنقية في حجيرات البدن كما يقوم التنفس بتصفية الدم، بل حتى الاجفان الرقيقة تستمع لها فتطهر العين باستمرار، بل حتى الذباب يستمع لها فيقوم بتنظيف اجنحته دائماً..
ومثلما يستمع كل ما ذكرناه لتلك الاوامر القدسية بالتنظيف، تستمع لها ايضاً الرياح الهوج والسحاب الثقال، فتلك تطهِّر وجهَ الارض من النفايات، والاخرى ترشّ روضَتها بالماء الطاهر فتسكّن الغبار والتراب، ثم تنسحب بسرعة ونظام حاملة ادواتها ليعود الجمالُ الساطع الى وجه السماء صافياً متلألئاً.
ومثلما تستمع لتلك الاوامر الصادرة بالتطهير والتنظيف النجوم، والعناصر، والمعادن، والنباتات باشكالها وانواعها، تستمع لها الذراتُ جميعاً، حتى انها تراعي النقاوة والصفاء في دوامات تحولاتها المحيرة للالباب، فلا تجتمع في زاوية دون فائدة، ولا تزدحم في ركن دون نفع، بل لو تلوثت تُنظَّف فوراً وتُساق سوقاً من لدن قدرة حكيمة الى أخذ أطهر الاوضاع وانظفها وأسطعها واصفاها، وأخذ أجمل الصور وانقاها وألطفها.
وهكذا فان فعلَ التطهير هذا الذي هو فعلٌ واحد، ويعبِّر عن حقيقة واحدة هوتجلٍّ اعظم من تجليات اسم "القدوس" الاعظم،يُرى ذلك التجلي الاعظم حتى في أعظم دوائر الكون واوسعها، بحيث يبين الوجود الرباني، ويُظهر الوحدانية الإلهية مع اسمائها الحسنى ظهوراً جلياً كالشمس المنيرة، فتبصره العيون النافذة النظر.
وقد ثبت ببراهين دامغة في أغلب اجزاء (رسائل النور): ان فعل التنظيم والنظام الذي هو تجلٍ من تجليات اسم الحَكَم والحكيم، وان فعل الوزن والميزان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم العدل والعادل، وان فعل التزيين والاحسان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم الجميل والكريم، وان فعل التربية والإنعام الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم الرب الرحيم.. كل فعل من هذه الافعال، هو فعلٌ واحد، وحقيقة واحدة، تشاهَد بوضوحفي آفاق الكون كله، فكل منها يشير الى وجوب وجودِ واحدٍ أحدٍ، ويبين وحدانيته بجلاء.
كذلك فعلُ التنظيف والتطهير الذي هو تجلٍ من تجليات اسم "القدوس" يدل على وجود ذلك الواجب، كالشمس، ويبين وحدانيته كالنهار..
وكما ان الافعال المذكورة من تنظيم وتقدير وتزيين وتنظيف وامثالها من الافعال الحكيمة تبين خالقاً واحداً أحداً، بوحدتها النوعية، وبظهورها في اوسع الآفاق الكونية، كذلك اكثر الاسماء الحسنى، بل كل اسم من الف اسم واسم من الاسماء الحسنى له تجلٍ أعظم في اوسع دائرة من دوائر الكون كهذا. فيُظهر الفعلُ الناتج من ذلك التجلي الواحد الاحد ظهوراً جلياً يناسب سعة ذلك الفعل ووضوحه.
نعم، ان الحكمة العامة التي تُخضع كل شئ الى قانونها ونظامها، والعناية الشاملة التي تجمّل كل شئ وتزيّنه، والرحمة الواسعة التي تُدخل السرورَ والبهجة على كل شئ وتجعله في حمدٍ دائم، والرزق العام الذي يعتاش عليه كلُ ذي حياة ويتمتع بلذائذه، والحياة والإحياء التي تربط كل شئ بالاشياء الأخرى، وتجعل الشئ ينتفع من كل شئ كأنه مالك للاشياء..
هذه الحقائق وامثالها، المشهودة بالبداهة، والمتسمة بالوحدة، والجاعلة وجهَ الكون يشرق بهاءً، ويستهل بِشراً وسروراً، تدل بداهةً على: الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزاق، الحي المحيي، كما يدل الضوءُ على الشمس. ولله المثل الاعلى.
فكل فعل من هذه الافعال الواسعة التي تربو على المئات، دليل باهر الوضوح على الوحدانية، إن لم يُسنَد الى (الواحد الاحد) سبحانه لنتجت اذاً مئات المحالات بمئات من الأوجه.
فمثلاً: انه ليست الافعال كلها كالحكمة والعناية والرحمة والاعاشة والإحياء والاماتة التي هي من الحقائق البديهية ومن دلائل التوحيد، بل حتى فعلٌ واحد فقط منها وهو فعل التطهير لو لم يُسند الى رب العالمين للزم - في طريق الكفر والضلالة
ان يكون كلُّ شئ له علاقةٌ بالتنظيف ابتداءً من الذرات، الى الحشرات، الى العناصر، الى النجوم، علىعلمٍ ومعرفةٍ بتنظيف هذا الكون العظيم وتزيينه وتجميله وموازنة ما فيه!! وأن يلاحظ الامور وفقها، ويقدِر على التحرك.
أو يلزم ان يتصف كلٌ منها بالصفات القدسية الجليلة لرب العالمين!!
أو يلزم ان يكون هناك مجلس شورى واسع سعة الكون كله لتنظيم جميع تزيينات الكون وتطهيره وتقدير كل ما يلج فيه وما يخرج منه وموازنته، وان يشكِّل هذا المجلسَ ما لا يحد من الذرات والحشرات والنجوم!!..
وهكذا يصل سالكُ طريق الكفر الى مئات من أمثال هذه الخرافات السخيفة والمحالات السوفسطائية كي يظهر التزيين المحيط والتنظيف الشامل الظاهر في الارجاء كافة. اي لاينشأ محال واحد بل مئات الالوف من المحالات.
نعم، ان لم يسند ضوء النهار والشُميسات المتألقة المثالية في كل شئ على سطح الارض، الى الشمس الواحدة، ولم تُفسَّر على انها انعكاساتٌ لتجلي تلك الشمس الواحدة، للزم وجود شمسٍ حقيقية في كل قطرة ماء لماعة، وفي كل قطعة زجاج شفافة، وفي كل بلورة ثلج مشعة، حتى في كل ذرة من ذرات الهواء، كي يظهر ذلك الضوء الذي يعم الوجود!!
وهكذا؛
فالحكمة ضياءٌ، والرحمة الواسعة ضياء، والتزيين والموازنة والتنظيم والتنظيف كلٌ منها ضياء شامل محيط وشعاع من اشعة ذلك النور الازلي سبحانه.
فانظر الآن بنور هذا الايمان لترى كيف يسقط أهل الكفر والضلالة في مستنقع آسن لا يمكنهم الخروج منه. وشاهد مدى حماقة أهل الضلالة وجهالتهم! واحمد الله قائلاً:
الحمد لله على دين الاسلام وكمال الايمان.
نعم، ان هذا التنظيف السامي الشامل المشاهَد الذي يجعل قصر العالم طاهراً نقياً نظيفاً لهو تجلٍ من تجليات اسم "القدوس" ومقتضىً من مقتضياته.
وكما تتوجه تسبيحات المخلوقات جميعها الى اسم "القدوس" وترنو اليه، كذلك يستدعي اسم "القدوس" نظافة تلك المخلوقات وطهارتها[1] حتى عدّ الحديث الشريف "النظافة من الايمان" الطهور نوراً من انواره[2] لارتباطه القدسي هذا، واظهرت الآية الكريمة ان الطُهر مدعاة الى المحبة الإلهية ومدار لها، في قوله تعالى:
(انَّ الله يحبّ التوابينَ ويحبّ المتطهرين) (البقرة:222).
[1]يجب الاّ ننسى: ان الخصال القبيحة، والاعتقادات الباطلة، والذنوب والآثام، والبدع، كلها من الاوساخ المعنوية. ــ المؤلف.
[2]وردت في هذا المعنى احاديث كثيرة منها: «الطهور شطر الايمان والحمد لله تملأ الميزان..» رواه مسلم واحمد والترمذي عن ابي مالك الأشعري، (عن كشف الخفاء للعجلوني). ـ المترجم.
بديع الزمان إمام النورسي