بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
(إنَّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) (النساء: 103)
قال لي احدهم يوماً وهو كبير سناً وجسماً ورتبة: ان اداء الصلاة حسنٌ وجميل، ولكن تكرارها كل يوم، وفي خمسة اوقات كثير جداً فكثرتها هذه تجعلها مملّة!..
وبعد مرور فترة طويلة على هذا القول، اصغيت الى نفسي فاذا هي ايضاً تردد الكلام نفسه!!. فتأملت فيها مليّاً، واذا بها قد أخذت بطريق الكسل الدرسَ نفسه من الشيطان، فعلمتُ عندئذ ان ذلك الرجل كأنه قد نطقَ بتلك الكلمات بلسان جميع النفوس الامّارة بالسوء، أو اُنطق هكذا.. فقلت: ما دامت نفسي التي بين جنبيّ امارةٌ بالسوء فلابد أن ابدأ بها أولاً لأن من عجز عن اصلاح نفسه فهو عن غيرها اعجز.. فخاطبتها:
يا نفسي!.. اسمعيها مني "خمسة تنبيهات" مقابل ما تفوهتِ به، وانتِ منغمسة في الجهل المركب، سادرة في نوم الغفلة على فراش الكسل..
التنبيه الاول:
يا نفسي الشقية!.. هل ان عمركِ ابدي؟وهل عندك عهد قطعي بالبقاء الى السنة المقبلة بل الى الغد؟ فالذي جعلكِ تملّين وتسأمين من تكرار الصلاة هو توهمكِ الابدية والخلود، فتظهرين الدلال وكأنك بترفك مخلّدة في هذه الدنيا.
فان كنت تفهمين ان عمركِ قصير، وانه يمضي هباء دون فائدة، فلا ريب أن صرف جزء من اربعة وعشرين منه في اداء خدمة جميلة ووظيفة مريحة لطيفة، وهي رحمة لك ووسيلة لحياة سعيدة خالدة، لا يكون مدعاة الى الملل والسأم، بل وسيلة مثيرة لشوق خالص ولذوقٍ رائع رفيع.
التنبيه الثاني:
يا نفسي الشرهة!.. انكِ يومياً تاكلين الخبز، وتشربين الماء، وتتنفسين الهواء، أما يورث هذا التكرار مللاً وضجراً؟.. كلا.. دون شك.. لان تكرار الحاجة لا يجلب الملل بل يجدّد اللذة، لهذا؛ فالصلاة التي تجلب الغذاء لقلبي، وماء الحياة لروحي، ونسيم الهواء للّطيفة الربانية الكامنة في جسمي، لابد انها لا تجعلك تملّين ولا تسأمين ابداً.
نعم! ان القلب المتعرض لأحزانٍ وآلام لا حدّ لها، المفتون بآمال ولذائذ لا نهاية لها، لا يمكنه ان يكسب قوةً ولا غذاء الاّ بطرقِ باب الرحيم الكريم، القادر على كل شئ بكل تضرع وتوسل.
وان الروح المتعلقة باغلب الموجودات الآتية والراحلة سريعاً في هذه الدنيا الفانية، لا تشرب ماء الحياة الاّ بالتوجه بالصلاة الى ينبوع رحمة المعبود الباقي والمحبوب السرمدي.
وان السر الانساني الشاعر الرقيق اللطيف، وهو اللطيفة الربانية النورانية، والمخلوق للخلود، والمشتاق له فطرةً والمرآة العاكسة لتجليات الذات الجليلة.. لابد انه محتاج أشد الحاجة الى التنفس، في زحمة وقساوة وضغوط هذه الاحوال الدنيوية الساحقة الخانقة العابرة المظلمة، وليس له ذلك الاّ بالاستنشاق من نافذة الصلاة.
التنبيه الثالث:
يا نفسي الجزعة!.. انك تضطربين اليوم من تذكر عناء العبادات التي قمت بها في الأيام الماضية، ومن صعوبات الصلاة وزحمة المصائب السابقة، ثم تتفكرين في واجبات العبادات في الايام المقبلة وخدمات اداء الصلوات، وآلام المصائب، فتظهرين الجزع، وقلة الصبر ونفاده. هل هذا أمرٌ يصدر ممَّن له مسكة من عقل؟.
ان مثلكِ في عدم الصبر هذا مثلُ ذلك القائد الاحمق الذي وجَّه قوةً عظيمة من جيشه الى الجناح الأيمن للعدو، في الوقت الذي إلتحقَ ذلك الجناح من صفوف العدو الى صفّه، فاصبح له ظهيراً. ووجّه قوته الباقية الى الجناح الايسر للعدو، في الوقت الذي لم يكن هناك أحدٌ من الجنود. فأدرك العدو نقطة ضعفه فسدد هجومَه الى القلب فدمّره هو وجيشَه تدميراً كاملاً.
نعم انك تشبهين هذا القائد الطائش، لأن صعوبات الايام الماضية وأتعابها قد ولّت، فذهبت آلامُها وظلت لذّتها وانقلبت مشقتها ثواباً، لذا لا تولّد مللاً بل شوقاً جديداً وذوقاً نديّاً وسعياً جاداً دائماً للمضي والاقدام. أما الايام المقبلة، فلأنها لم تأتِ بعدُ، فان صرف التفكير فيها من الآن نوعٌ من الحماقة والبله، اذ يشبه ذلك، البكاء والصراخ من الآن، لما قد يحتمل ان يكون من العطش والجوع في المستقبل!.
فما دام الامر هكذا، فان كان لك شئ من العقل، ففكري من حيث العبادة في هذا اليوم بالذات. قولي: سأصرف ساعة منه في واجبٍ مهم لذيذ جميل، وفي خدمةٍ سامية رفيعة ذات أجر عظيم وكلفة ضئيلة.. وعندها تشعرين أن فتورك المؤلم قد تحوّل الى همة حلوة، ونشاط لذيذ.
فيا نفسي الفارغة من الصبر.. انك مكلفة بثلاثة أنواع من الصبر.
الأول: الصبر على الطاعة.
الثاني: الصبر عن المعصية.
الثالث: الصبر عند البلاء.
فان كنتِ فطنة فخذي الحقيقة الجلية في مثال القائد - في هذا التنبيه - عبرةً ودليلاً، وقولي بكل همة ورجولة: يا صبور. ثم خذي على عاتقك الانواع الثلاثة من الصبر. واستندي الى قوة الصبر المودعة فيك وتجمّلي بها، فانها تكفي للمشقات كلها، وللمصائب جميعها ما لم تبعثريها خطأ في أمور جانبية..
التنبيه الرابع:
يا نفسي الطائشة!.. يا تُرى هل ان اداء هذه العبودية دون نتيجة وجدوى؟! وهل ان أجرتها قليلة ضئيلة حتى تجعلك تسأمين منها؟. مع ان أحدنا يعمل الى المساء ويكدّ دون فتور إن رغّبه احدٌ في مالٍ أو أرهبه.
ان الصلاة التي هي قوتٌ لقلبك العاجز الفقير وسكينةٌ له في هذا المضيف الموقت وهو الدنيا. وهي غذاءٌ وضياء لمنزلك الذي لابد انك صائرة اليه، وهو القبر. وهي عهدٌ وبراءةٌ في محكمتك التي لا شك انك تحشرين اليها. وهي التي ستكون نوراً وبُراقاً على الصراط المستقيم الذي لابد انك سائرة عليه.. فصلاة هذه نتائجها هل هي بلا نتيجة وجدوى؟ أم انها زهيدة الاجرة؟..
واذا وَعَدَكِ أحدٌ بهدية مقدارها مائة ليرة، فسوف يستخدمك مائة يوم وانت تسعَين وتعملين معتمدة على وعده دون ملل وفتور، رغم انه قد يخلف الوعد. فكيف بمن وعدك، وهو لا يخلف الوعد قطعاً؟ فخُلف الوعد عنده محال! وعدك اجرةً وثمناً هي الجنة، وهدية عظيمة هي السعادة الخالدة، لتؤدي له واجباً ووظيفة لطيفة مريحة وفي فترة قصيرة جداً. ألا تفكرين في أنك ان لم تؤدي تلك الوظيفة والخدمة الضئيلة، أو قمتِ بها دون رغبة أو بشكلٍ متقطع، فانك اذن تستخفين بهديته، وتتهمينه في وعده! الا تستحقين اذن تأديباً شديداً وتعذيباً اليماً؟. الا يثير همتك لتؤدي تلك الوظيفة التي هي في غاية اليسر واللطف خوف السجن الابدي وهو جهنم، علماً انك تقومين باعمال مرهقة وصعبة دون فتور خوفاً من سجن الدنيا، واين هذا من سجن جهنم الابدي؟!
التنبيه الخامس:
يا نفسي المغرمة بالدنيا!.. هل ان فتورك في العبادة وتقصيرك في الصلاة ناشئان من كثرة مشاغلك الدنيوية؟ ام انك لا تجدين الفرصة لغلبة هموم العيش؟!
فيا عجباً هل أنتِ مخلوقة للدنيا فحسب، حتى تبذلي كل وقتك لها؟. تأملي!! انك لا تبلغين اصغرَ عصفور من حيث القدرة على تدارك لوازم الحياة الدنيا رغم انك أرقى من جميع الحيوانات فطرةً. لِمَ لا تفهمين من هذا أن وظيفتكِ الاصلية ليس الانهماك بالحياة الدنيا والاهتمام بها كالحيوانات، وانما السعيُ والدأبُ لحياة خالدة كالانسان الحقيقي. مع هذا فان اغلب ما تذكرينه من المشاغل الدنيوية، هي مشاغل ما لا يعنيك من الامور، وهي التي تتدخلين فيها بفضول، فتهدرين وقتك الثمين جداً فيما لا قيمة له ولا ضرورة ولا فائدة منه.. كتعلّم عدد الدجاج في امريكا!! أو نوع الحلقات حول زحل. وكأنك تكسبين بهذا شيئاً من الفَلك والاحصاء!! فتَدَعين الضروري والأهم والألزم من الامور كأنك ستعمّرين آلاف السنين؟.
فان قلت: ان الذي يصرفني ويفترني عن الصلاة والعبادة ليس مثل هذه الامور التافهة، وانما هي امور ضرورية لمطالب العيش. اذن فاسمعي مني هذا المثل:
ان كانت الاجرة اليومية لشخصٍ مائة قرش وقال له أحدهم تعال واحفر لعشر دقائق هذا المكان فانك ستجد حجراً كريماً كالزمرد قيمتُه مائة ليرة، كم يكون عذراً تافهاً بل جنوناً إن رفض ذلك بقوله: لا.. لا أعمل.. لأن اجرتي اليومية ستنقص!..
وكذلك حالك، فان تركت الصلاة المفروضة، فان جميع ثمار سعيك وعملك في هذا البستان ستنحصر في نفقةٍ دنيوية تافهة دون ان تجنى فائدتها وبركتها. بينما لو صرفت وقت راحتك بين فترات العمل في اداء الصلاة، التي هي وسيلةٌ لراحة الروح، ولتنفس القلب، يضاف عندئذٍ الى نفقتك الاخروية وزاد آخرتك مع نفقتك الدنيوية المباركة، ما تجدينه من منبع عظيم لكنزَين معنويين دائمين وهما:
الكنز الأول: ستأخذ[1] حظك ونصيبك من "تسبيحات" كل ما هيأته بنيّة خالصة، من ازهار وثمار ونباتات في بستانك.
الكنز الثاني: ان كل مَن يأكل من محاصيل بستانك - سواء أكان حيواناً أم انساناً شارياً أو سارقاً - يكون بحكم "صدقةٍ جارية" لك، فيما اذا نظرت الى نفسك كأنك وكيلٌ وموظف لتوزيع مال الله سبحانه وتعالى على مخلوقاته. اي تتصرف باسم الرزاق الحقيقي وضمن مرضاته.
والآن تأمل في الذي ترك الصلاة، كم هو خاسرٌ خسراناً عظيماً؟. وكم هو فاقد من تلك الثروة الهائلة؟. وكيف انه سيبقى محروماً ومفلساً من ذينك الكنزين الدائمين اللذين يمدان الانسان بقوة معنوية للعمل ويشوّقانه للسعي والنشاط؟.. حتى اذا بلغ ارذل عمره، فانه سوف يملّ ويضجر مخاطباً نفسه: وما عليّ؟! لِمَ أتعب نفسي؟ لأجل مَن أعمل؟ فانني راحل من هذه الدنيا غداً!.. فيلقي نفسه في احضان الكسل.
بينما الرجل الاول يقول: سأسعى سعياً حثيثاً في العمل الحلال بجانب عبادتي المتزايدة كيما أرسل الى قبري ضياءاً أكثر وادّخر لآخرتي ذخيرة أزيد.
والخلاصة:
اعلمي ايتها النفس!. ان الامس قد فاتكِ. أما الغد فلم يأت بعد، وليس لديك عهد أنك ستملكينه، لهذا فاحسبي عمرك الحقيقي هو هذا اليوم. وأقل القليل ان تلقي ساعة منه في صندوق الادّخار الاُخروي، وهو المسجد أو السجادة لتضمني المستقبل الحقيقي الخالد.
واعلمي كذلك أن كل يوم جديد هو بابٌ ينفتح لعالم جديد - لك ولغيرك - فان لم تؤدي فيه الصلاة فان عالم ذلك اليوم يرحل الى عالم الغيب مُظلماً شاكياً محزوناً، وسيشهد عليك..
وان لكلٍ منا عالمه الخاص من ذلك العالم، وان نوعيته تتبع عملنا وقلبنا، مَثلُه في ذلك مثلُ المرآة، تظهر فيها الصورة تبعاً للونها ونوعيتها، فان كانت مسودّة فستظهر الصورة مسودّة.. وان كانت صقيلة فستظهر الصورة واضحة، وإلا فستظهر مشوهة تضخم أتفه شئ واصغره.. كذلك أنت، فبقلبك وبعقلك وبعملك يمكنك ان تغيري صورَ عالمكِ، وباختيارك وطوع ارادتك يمكنك ان تجعلي ذلك العالم يشهد لك أو عليك.
وهكذا ان ادّيت الصلاة وتوجهت بصلاتك الى خالق ذلك العالم ذي الجلال، فسيتنور ذلك العالم المتوجه اليك حالاً، وكأنك قد فتحت بنيّة الصلاة مفتاح النور فاضاءه مصباح صلاتك، وبدّد الظلمات فيه.. وعندها تتحول وتتبدل جميع الاضطرابات والاحزان التي حولك في الدنيا فتراها نظاماً حكيماً، وكتابة ذات معنى بقلم القدرة الربانية، فينساب نورٌ من انوار (الله نور السموات والارض) الى قلبك، فيتنور عالم يومك ذاك، وسيشهد بنورانيته لك عند الله..
فيا أخي! حذار ان تقول: أين صلاتي من حقيقة تلك الصلاة؟. اذ كما تحمل نواةُ التمرفي طياتها صفات النخلة الباسقة، الفرق فقط في التفاصيل والاجمال. كذلك صلاة العوام - من هم امثالي وامثالك - فيها حظٌ من ذلك النور وسرٌ من اسرار تلك الحقيقة، كما هي في صلاة ولي من أولياء الله الصالحين ولو لم يتعلق بذلك شعوره. أما تنورها فهي بدرجات متفاوتة، كتفاوت المراتب الكثيرة التي بين نواة التمر الى النخلة. ورغم أن الصلاة فيها مراتب اكثر فان جميع تلك المراتب فيها أساس من تلك الحقيقة النورانية.
اللّهم صل وسلم على من قال : (الصلاة عماد الدين) [1] وعلى آله وصحبه اجمعين.
[1]قال في المقاصد: رواه البيهقي في الشعب بسند ضعيف . واقول عزاه في الجامع الصغير للبيهقي عن ابن عمر.. واورده الغزالي في الاحياء، ورواه ابو نعيم عن بلال بن يحيى قال: جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الصلاة فقال: الصلاة عمود الدين. وهو مرسل ورجاله ثقات. (باختصار عن كشف الخفاء). المترجم.