رد: عداء المؤمن لأخيه المؤمن...!!!
هذا الوجه يبين مدى الضرر البالغ الذي يصيب الحياة الاجتماعية من جراء العناد والتنافر والتفرقة.
فاذا قيل:
لقد ورد في حديث شريف: (اِخْتِلافُ اُمَّتي رَحْمَةٌّ)(1) والاختلاف يقتضى التفرق والتحزب والاعتداد بالرأي.
ولكن داء التفرق والاختلاف هذا فيه وجه من الرحمة لضعفاء الناس من العوام، اذ ينقذهم من تسلط الخواص الظلمة الذين اذا حصل بينهم اتفاق في قرية او قصبة اضطهدوا هؤلاء الضعفاء ولكن اذا كانت ثمة تفرقة بينهم فسيجد المظلوم ملجأ في جهة، فينقذ نفسه.
ثم ان الحقيقة تتظاهر جلية من تصادم الافكار ومناقشة الاراء وتخالف العقول.
الجواب:
نقول اجابة عن السؤال الاول:
ان الاختلاف الوارد في الحديث هو الاختلاف الايجابي البنّاء المثبت. ومعناه: ان يسعى كل واحد لترويج مسلكه واظهار صحة وجهته وصواب نظرته، دون أن يحاول هدم مسالك الاخرين او الطعن في وجهة نظرهم وابطال مسلكهم، بل يكون سعيه لإكمال النقص ورأب الصدع والاصلاح ما استطاع اليه سبيلاً. اما الاختلاف السلبي فهو محاولة كل واحد تخريب مسلك الاخرين وهدمه، ومبعثه الحقد والضغينة والعداوة، وهذا النوع من الاختلاف مردود اصلاً في نظر الحديث، حيث المتنازعون والمختلفون يعجزون عن القيام بأي عمل ايجابي بناء.
وجواباً عن السؤال الثاني نقول:
ان كان التفرق والتحزب لاجل الحق وبأسمه، فلربما يكون ملاذ اهل الحق، ولكن الذي نشاهده من التفرق انما هو لاغراض شخصية ولهوى النفس الامارة بالسوء.
فهو ملجأ ذوي النيات السيئة بل متكأ الظلمة ومرتكزهم، فالظلم واضح في تصرفاتهم، فلو اتى شيطان الى احدهم معاوناً له موافقاً لرأيه تراه يثني عليه ويترحم عليه، بينما اذا كان في الصف المقابل انسان كالملَك تراه يلعنه ويقذفه.
اما عن السؤال الثالث فنقول:
ان تصادم الآراء ومناقشة الافكار لاجل الحق وفي سبيل الوصول الى الحقيقة انما يكون عند اختلاف الوسائل مع ا لاتفاق في الاسس والغايات، فهذا النوع من الاختلاف يستطيع ان يقدم خدمة جليلة في الكشف عن الحقيقة واظهار كل زاوية من زواياها بأجلى صور الوضوح.
ولكن ان كانت المناقشة والبحث عن الحقيقة لاجل اغراض شخصية وللتسلط والاستعلاء واشباع شهوات نفوس فرعونية ونيل الشهرة وحب الظهور، فلا تتلمع بارقة الحقيقة في هذا النوع من بسط الافكار، بل تتولد شرارة الفتن.
فلا تجد بين امثال هؤلاء اتفاقاً في المقصد والغاية، بل ليس على الكرة الارضية نقطة تلاق لافكارهم، ذلك لانه ليس لاجل الحق، فترى فيه الافراط البالغ دون حدود، مما يفضي الى انشقاقات غير قابلة للالتئام. وحاضر العالم شاهد على هذا..
وصفوة القول:
ان لم تكن تصرفات المؤمن وحركاته وفق الدساتير السامية التي وضعها الحديث الشريف: ((الحب في الله والبغض في الله))(1) والاحتكام الى امر الله في الامور كلها، فالنفاق والشقاق يسودان..
نعم، ان الذي لا يستهدي بتلك الدساتير يكون مقترفاً ظلماً في الوقت الذي يروم العدالة.
حادثة ذات عبرة:
في احدى الغزوات الاسلامية، كان الامام علي رضى الله عنه يبارز احد فرسان المشركين فتغلب عليه الامام وصرعه. فلما اراد الامام ان يجهز عليه تفل على وجه الامام. فما كان من الامام الا ان اخلى سبيله وانصرف عنه، فاستغرب المشرك من هذا العمل.
فقال: الى اين؟
قال الامام: كنت اقاتلك في سبيل الله، فلما فعلت ما فعلت خشيت ان يكون قتلي اياك فيه ثأر لنفسي فأطلقتك لله.
فأجابه الكافر: كان الاولى ان تثيرك فعلتي اكثر فتسرع في قتلي! وما دمتم تدينون بدين هو في منتهى السماحة فهو بلا شك دين حق(2).
وحادثة اخرى:
عزل حاكم مسلم قاضيه،لما رأى منه شيئاً من الحدة والغضب اثناء قطعه يد السارق. فما ينبغي لمن ينفذ امر الله ان يحمل شيئاً من حظ نفسه على المحكوم، بل عليه ان يشفق ـ من حيث النفس ـ على حاله دون ان تأخذه رأفة في تنفيذ حكم الله. وحيث ان شيئاً من حظ النفس قد اختلط في الامر وهو مما ينافي العدالة الخالصة فقد عُزل القاضي.
مرض اجتماعي خطر وحالة اجتماعية مؤسفة اصابت الامة الاسلامية يدمي لها القلب:
ان اشد القبائل تأخراً يدركون معنى الخطر الداهم عليهم، فتراهم ينبذون الخلافات الداخلية، وينسون العداوات الجانبية عند اغارة العدو الخارجي عليهم.
واذا تقدّر تلك القبائل المتأخرة مصلحتهم الاجتماعية حق قدرها، فما للذين يتولون خدمة الاسلام ويدعون اليه لا ينسون عداوتهم الجزئية الطفيفة فيمهدون بها سبل اغارة الاعداء الذين لا يحصرهم العد عليهم؟!
فلقد تراصف الاعداء حولهم واطبقوا عليهم من كل مكان..
ان هذا الوضع تدهور مخيف، وانحطاط مفجع، وخيانة بحق الاسلام والمسلمين.
واذكر للمناسبة حكاية ذات عبرة: كانت هناك قبيلتان من عشيرة ((حسنان)) و كانت بينهما ثارات دموية، حتى ذهب ضحيتها اكثر من خمسين رجلاً، ولكن ما ان يداهمهما خطر خارجي من قبيلة ((سبكان)) او ((حيدران)) الا تتكاتفان وتتعاونان وتنسيان كلياً الخلافات لحين صد العدوان.
فيا معشر المؤمنين، اتدرون كم يبلغ عدد عشائر الاعداء المتأهبين للاغارة على عشيرة الايمان؟ انهم يزيدون على المائة وهم يحيطون بالاسلام والمسلمين كالحلقات المتداخلة. فبينما ينبغي ان يتكاتف المسلمون لصد عدوان واحد من اولئك، يعاند كل واحد وينحاز جانباً سائراً وفق اغراضه الشخصية كأنه يمهد السبيل لفتح الابواب امام اولئك الاعداء ليدخلوا حرم الاسلام الآمن..
فهل يليق هذا بأمة الاسلام؟
وان شئت ان تعدد دوائر الاعداء المحيطة بالاسلام، فهم ابتداء من اهل الضلالة والالحاد وانتهاء الى عالم الكفر ومصائب الدنيا واحوالها المضطربة جميعها، فهي دوائر متداخلة تبلغ السبعين دائرة، كلها تريد ان تصيبكم بسوء، وجميعها حانقة عليكم وحريصة على الانتقام منكم، فليس لكم أمام جميع اولئك الاعداء الالداء إلا ذلك السلاح البتار والخندق الامين والقلعة الحصينة، الا وهي الاخوة الاسلامية.
فأفق ايها المسلم!
واعلم ان زعزعة قلعة الاسلام الحصينة بحجج تافهة واسباب واهية خلاف للوجدان الحي وأي خلاف ومناف لمصلحة الاسلام كلياً.. فانتبه! ولقد ورد في الاحاديث الشريفة ما مضمونه:
ان الدجال والسفياني وامثالهما من الاشخاص الذين يتولون المنافقين ويظهرون في آخر الزمان، يستغلون الشقاق بين الناس والمسلمين ويستفيدون من تكالبهم على حطام الدنيا، فيهلكون البشرية بقوة ضئيلة، وينشرون الهرج والمرج بينها ويسيطرون على امة الاسلام ويأسرونها(1).
ايها المؤمنون!
ان كنتم تريدون حقاً الحياة العزيزة، وترفضون الرضوخ لاغلال الذل والهوان، فأفيقوا من رقدتكم، وعودوا الى رشدكم، وادخلوا القلعة الحصينة المقدسة: } اِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ{ (الحجرات: 10) وحصنوا انفسكم بها من ايدي اولئك الظلمة الذين يستغلون خلافاتكم الداخلية..
والا تعجزون عن الدفاع عن حقوقكم بل حتى عن الحفاظ على حياتكم، اذ لا يخفى ان طفلاً صغيراً يستطيع ان يضرب بطلين يتصارعان، وان حصاة صغيرة تلعب دوراً في رفع كفة ميزان وخفض الاخرى ولو كان فيهما جبلان متوازنان.
فيا معشر أهل الايمان!
ان قوتكم تذهب ادراج الرياح من جراء اغراضكم الشخصية وانانيتكم وتحزبكم، فقوة قليلة جداً تتمكن من ان تذيقكم الذل والهلاك. فان كنتم حقاً مرتبطين بملة الاسلام فاستهدوا بالدستور النبوي العظيم:
(الـمُؤْمِنُ لِلْـمُؤْمِنِ كَالْبُنيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً)(2) وعندها فقط تسلمون من ذل الدنيا وتنجون من شقاء الآخرة.
الوجه السادس:
ان الاخلاص واسطة الخلاص ووسيلة النجاة من العذاب، فالعداء والعناد يزعزعان حياة المؤمن المعنوية فتتأذى سلامة عبوديته لله، اذ يضيع الاخلاص!.
ذلك لان المعاند الذي ينحاز الى رأيه وجماعته يروم التفوق على خصمه حتى في اعمال البر التي يزاولها. فلا يوفق توفيقاً كاملاً الى عمل خالص لوجه الله. ثم انه لا يوفق ايضاً الى العدالة، اذ يرجح الموالين لرأيه الموافقين له في احكامه ومعاملاته على غيرهم.. وهكذا يضيع اساسان مهمان لبناء البر((الاخلاص والعدالة)) بالخصام والعداء.
ان بحث هذا الوجه يطول،فلا يتسع هذا المقام اكثر من هذا القدر، فنكتفي به.
منقول من مئلفات الإمام بديع الزمان سعيد النورسي