بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيْم
(اَلرَّحْمنُ * عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ * خَلَقَ الاِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ )
فنحمده مصلين على نبيه محمد الذي ارسله رحمة للعالمين وجعل معجزته الكبرى الجامعة برموزها واشاراتها لحقائق الكائنات باقية على مر الدهور الى يوم الدين وعلى آله عامة واصحابه كافة.
أما بعد؛ فاعلم!
اولاً: ان مقصدنا من هذه الاشارات تفسير جملة من رموز نظْمِ القرآن؛ لأن الاعجاز يتجلى من نظمه. وما الاعجاز الزاهر الاّ نقشُ النظم.
وثانياً: ان المقاصد الاساسية من القرآن وعناصره الاصلية اربعة: التوحيد والنبوة والحشر والعدالة؛ لانه:
لما كان بنو آدم كركبٍ وقافلةٍ متسلسلةٍ راحلةٍ من أودية الماضي وبلاده، سافرةٍ في صحراء الوجود والحياة، ذاهبةٍ الى شواهق الاستقبال، متوجهةٍ الى جنّاته، فتهتز بهم المناسبات وتتوجه اليهم الكائنات. كأنه اَرسلَتْ حكومةُ الخِلقة فَنَّ الحكمةِ مستنطقا وسائلاً منهم بـ "يا بني آدم! مِن أين؟ الى أين؟ ماتصنعون؟ مَنْ سلطانكم؟ مَنْ خطيبكم؟"
فبينما المحاورة، اذ قام من بين بني آدم - كأمثاله الأماثل من الرسل اولي العزائم - سيّدُ نوعِ البشر محمّد الهاشمي صلى الله عليه وسلم وقال بلسان القرآن:
"ايها الحكمة[1]! نحن معاشر الموجودات نجئ بارزين من ظلمات العدم بقدرة سلطان الازل، الى ضياء الوجود.. ونحن معاشر بني آدم بُعِثْنا بصفة المأمورية ممتازين من بين اخواننا الموجودات بحمل الامانة.. ونحن على جناح السفر من طريق الحشر
[1] اى: ايها الفن المسمى بالحكمة. والفن يطلق على كل علم، والحكمة: علم يبحث عن حقائق الاشياء على ما هى عليه في الوجود بقدر الطاقة البشرية، فهى علم نظرى غير آلي (التعريفات).
الى السعادة الابدية، ونشتغل الآن بتدارك تلك السعادة وتنمية الاستعدادات التي هى رأسُ مالِنا.. وانا سيُّدُهم وخطيبهم. فها دونكم منشوري! وهو كلام ذلك السلطان الأزلي تتلألأ عليه سكّةُ الاعجاز. والمجيب عن هذه الاسئلة الجوابَ الصواب ليس الا القرآنُ، ذلك الكتاب..
كان[1] هذه الاربعة عناصره الاساسية.
فكما تتراءى هذه المقاصد الاربعة في كله، كذلك قد تتجلى في سورةٍ سورة، بل قد يُلْمَح بها في كلامٍ كلام، بل قد يُرْمَز اليها في كلمةٍ كلمة؛ لان كل جزء فجزء كالمرآة لكلٍ فكلٍ متصاعداً، كما ان الكل يتراءى في جزءٍ فجزءٍ متسلسلا.
ولهذه النكتة - اعني اشتراك الجزء مع الكل - يُعرّف القرآنُ المشخَّصُ كالكلي ذي الجزئيات؟.
ان قلت: ارني هذه المقاصد الاربعة في "بسم الله" وفي "الحمد لله".
قلت: لما اُنزل (بسم الله) لتعليم العباد كان "قُلْ" مقدَّراً فيه. وهو الأُمّ في تقدير الاقوال القرآنية[2]. فعلى هذا يكون في "قل" اشارة الى الرسالة.. وفي (بسم الله) رمز الى الالوهية.. وفي تقديم الباء تلويحٌ الى التوحيد[3].. وفي COLOR=magenta[/COLOR] تلميحٌ الى نظام العدالة والاحسان.. وفي (الرحيم) ايماء الى الحشر.
وكذلك في (الحمد لله) اشارةٌ الى الالوهية.. وفي لام الاختصاص رمزٌ الى التوحيد.. وفي (رب العالمين) ايماء الى العدالة والنبوة ايضا؛ لان بالرسل تربيةُ نوع البشر.. وفي (مالك يوم الدين) تصريح بالحشر.
حتى ان صَدَف(اِنَّا اَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ )[4] يتضمن هذه الجواهر. هذا مثالا فانسج على منواله.
[1] جواب لما .. (المؤلف).
[2] اى: يا محمد! قل هذا الكلام وعلّمه الناس (ت: 13)
[3] حيث يفيد الحصر. (ت: 13)
[4] وهى من اقصر السور القرآنية.
إشارات الإعجاز - ص: 25
(بِسْمِ الله)
كالشمس يضئ نَفْسَه كغيرِه، فاستغنى. حتى ان باءه متعلقة بالفعل المفهوم من معناها - اي: استعين به، او المفهوم عرفاً، أي: أتَيمّن به، أو بما يستلزمه "قل" المقدَّر من "أقرأ" - المؤخّر للاخلاص والتوحيد[1].
اما "الاسم" فاعلم! ان لله اسماء ذاتية، واسماء فعلية متنوعة كالغفار والرزاق والمحيي والمميت وأمثالها. وتنوّعُها وتكثُّرها بسبب تعدد نسبة القدرة الازلية الى انواع الكائنات[2]. فكأن (بسم الله) استنزالٌ لتأثير وتعلق القدرة ليكون ذلك التعلقُ روحاً مُمدّاً لكسب العبد.
COLOR=magenta[/COLOR]
لفظة الجلال نسخةٌ جامعة لجميع الصفات الكمالية لدلالتها التزاماً عليه؛ بسر استلزام ذاته تعالى لصفاته بخلاف سائر الأَعلام، لعدم الاستلزام.
(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
وجه النظم: ان لفظ الجلال كما يتجلى منه الجلال بسلسلته، كذلك يتراءى الجمال بسلسلته من (الرحمن الرحيم). اذ الجلال والجمال اصلان تسلسل منهما - بتجليهما في كل عالم - فروعٌ: كالامر والنهي، والثواب والعذاب، والترغيب والترهيب، والتسبيح والتحميد، والخوف والرجاء الى آخره. .
وايضا كما ان لفظ الجلال اشارة الى الصفات العينية والتنزيهية؛ كذلك "الرحيم" ايماء الى الصفات الغيرية الفعلية؛ و"الرحمن" رمز الى الصفات السبع التي هي لا عينٌ ولاغيرٌ؛ اذ "الرحمن" بمعنى الرزاق، وهو عبارة عن اعطاء البقاء .
والبقاءُ تكررُ الوجود.
والوجود يستلزم صفة مُمَيِّزة وصفة مُخَصِّصَة وصفة مُؤَثِّرَة، وهي العلم والارادة والقدرة. والبقاء الذي هو ثمرة اعطاء الرزق يقتضي عُرفاً ثبوت البصر والسمع والكلام؛ اذ لابد للرزاق من البصر ليرى حاجة المرزوق إن لم يَطلب، ومن السمع ليستمع كلامه إن طلب، ومن الكلام ليتكلم مع الواسطة إن كانت . وهذه الست تستلزم السابعة التي هي الحياة.
[1] ان الافعال المذكورة المتعلقة بالباء، تقدّر مؤخراً للحصر ليتضمن الاخلاص والتوحيد (ت: 14)
[2] اى بسبب علاقة القدرة الازلية وتعلّقها بانواع الكائنات وافرادها (ت: 14)
ان قلت: تذييل "الرحمن" الدال على النِعَمِ العظيمة بـ "الرحيم" الدال على النعم الدقيقة يكون صنعة التدلّي. والبلاغة في صنعة الترقِّي من الادنى الى الاعلى؟
قلت: تذييلٌ للتتميم كالاهداب للعين واللجام للفرس.. وايضا لما توقفت العظيمةُ على الدقيقة، كانت الدقيقة ارقى كالمفتاح للقفل واللسان للروح.. وايضا لما كان هذا المقام مقام التنبيه على مواقع النِعَمِ كان الأخفى أجدر بالتنبيه، فيكون صنعةُ التدلِّي في مقام الامتنانِ والتعدادِ صنعةَ الترقِّي في مقام التنبيه.
ان قلت: "الرحمن" و"الرحيم" كامثالهما بمبادئها محالٌ في حقه تعالى كرقَّةِ القلب. وان اُريد منها النهايات[1] فما حكمة المجاز؟
قلت: هي حكمة المتشابهات[2]؛ وهي التنزلات الالهية الى عقول البشر؛ لتأنيس الاذهان وتفهيمها، كمن تكلم مع صبيّ بما يألفه ويأنس به. فان الجمهور من الناس يجتنون معلوماتهم عن محسوساتهم ولا ينظرون الى الحقائق المحضة الا في مرآة متخيلاتهم ومن جانب مألوفاتهم.. وايضا المقصود من الكلام: افادةُ المعنى، وهي لاتتم الا بالتأثير في القلب والحس، وهو لايحصل الا بإلباس الحقيقة اسلوبَ مألوف المخاطب وبه يستعد القلب للقبول.
size=x-large
وجه النظم مع ما قبله: ان "الرحمن" و"الرحيم" لما دلّتا على النِعَم استوجبتا تعقيب الحمد.
ثم ان (الحمد لله) قد كُرِّرَت في أربع سُوَرٍ من القرآن[3]، كل واحدة منها ناظرة الى نعمة من النعم الاساسية التي هي: النشأة الاولى، والبقاء فيها؛ والنشأة الاُخرى، والبقاء بعدها.[4]
[1] اى: إن قصد الإنعام الذي هو نتيجة ولازم لمعنى حقيقتهما (ت: 16)
[2] التى محال استعمال معناها الحقيقي بحقه تعالى، كاليد (ت: 16)
[3] وهى: الانعام، الكهف، سبأ، فاطر.
[4] قال ابو اسحق الاسفراينى رحمه الله: في سورة "الأنعام " كل قواعد التوحيد. ولما كانت نعمه تعالى مما تفوت الحصر إلاّ انها ترجع اجمالاً الى ايجاد وابقاء في النشأة الاولى، وايجاد وابقاء في النشأة الآخرة. وقد اشير في "الفاتحة " "الكهف " الى الابقاء الاول، وفي "سبأ " الى الايجاد الثانى، وفي "فاطر " الى الابقاء الثانى، فلهذا ابتدأت هذه السور الخمس بالتحميد (حاشية شهاب على سورة الانعام ج 4 ص2)(ب)
وجه نظمه في هذا المقام، أي جعله فاتحةَ فاتحةِ القرآن هو: انه كتصوّر العلة الغائية[1] المقَدَّم في الذهن؛ لان الحمدَ صورةٌ اجمالية للعبادة التي هي نتيجةٌ للخِلقة، والمعرفةِ التي هي حكمةٌ وغايةٌ للكائنات. فكأن ذكره تصورٌ للعلة الغائية.. وقد قال عز وجل (وماخلقتُ الجنَّ والإِنس الاّ ليعبدون)[2]
ثم ان المشهور من معاني الحمد اظهار الصفات الكمالية.
وتحقيقه: ان الله سبحانه خلق الانسان وجعله نسخة جامعة للكائنات، وفهرستة[3] لكتاب العالَم المشتمل على ثمانية عشر الف عالَم، وأودع في جوهره انموذجاً من كل عالَم تجلى فيه اسمٌ من اسمائه تعالى. فاذا صرفَ الانسانُ كل مااُنعِمَ عليه الى ماخُلِقَ لأجله ايفاءً للشكر العرفي - الداخل تحت الحمد - وامتثالاً للشريعة التي هي جلاء لصدأ الطبيعة، يصيرُ كلُّ انموذجٍ مشكاةً لعالَمِهِ ومرآةً له وللصفة المتجلية فيه والاسم المتظاهر منه. فيكون الانسان بروحه وجسمه خلاصةَ عالمَيْ الغيب والشهادة، ويتجلى فيه ما تجلى فيهما.
فبالحمد يصير الانسان مظهراً للصفات الكمالية الالهية. يدل على هذا قول محي الدين العربي[4] في بيان حديث (كُنْتُ كَنْزَاً مَخْفِيًّا فَخَلًقْتُ الْخَلْقَ لِيَعْرِفُوني)[5] أي : فخلقت الخلق ليكون مرآةً أشاهِدُ فيها جمالي.
[1] اى يكون المعلوم لأجلها.
[2] سورة الذاريات: 56 .
[3] فهرس وفهرست كلمة معربة.
[4] محي الدين بن عربي: 560 - 638 هـ /1165 - 1240 م
هو محمد بن علي بن محمد ابن عربي، ابو بكر الحاتمي الطائي الأندلسي، المعروف بمحي الدين بن عربي، الملقب بالشيخ الأكبر: فيلسوف، من أئمة المتكلمين في كل علم. ولد في مرسيه (بالاندلس) وانتقل الى اشبيلية. وقام برحلة فزار الشام وبلاد الروم والعراق والحجاز. وانكر عليه اهل الديار المصرية «شطحات» صدرت عنه، فعمل بعضهم على إراقة دمه. وحبس، فسعى في خلاصه علي بن فتح البجائي فنجا. واستقر في دمشق، فتوفي فيها له نحو اربعمائة كتاب ورسالة، منها (الفتوحات المكية) في التصوف وعلم النفس و(فصوص الحكم).
الاعلام 6/281 فوات الوفيات 2/241 ميزان الاعتدال 3/108 جامع كرامات الاولياء 1/118 شذرات الذهب 5/190.
[5] لا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، الاّ ان علي القارئ قال: ولكن معناه صحيح، مستفاد من قوله تعالى(وما خلقت الجن والانس إلاّ ليعبدون) اى ليعرفونى، كما فسره ابن عباس رضى الله عنهما (باختصار عن كشف الخفاء 2/132).
الحمد مختص ومستحق للذات[1] الاقدس المشخص الذي يُلاحَظ بمفهوم "الواجب الوجود"[2] اذ قد يلاحظ المشخص بأمر عام. وهذه اللام متعلقة بمعنى نفسها،كأنها تشربت معنى متعلقها[3]. وفي اللام اشارة الى الاخلاص والتوحيد.
FONT=Simplified Arabic
أي الذي يربّي العالم بجميع اجزائه، التي كلٌ منها كالعالم عالَم؛ وذرَّاتهُ كنجومه متفرِّقةٌ متحرِّكة بالانتظام.
واعلم! ان الله عز وجل عيّن لكل شئ نقطةَ كمالٍ وأودع فيه ميلاً اليها، كأنه أمَرَه أمراً معنويا ان يتحرك به اليها، وفي سفره يحتاج الى ما يُمدُّه ودفع ما يَعوقهُ، وذلك بتربيته عز وجل. لو تأملت في الكائنات لرأيتها كبني آدم طوائف وقبائل يشتغل كلٌ منفرداً ومجتمعاً بوظيفته التي عيَّنَها له صانِعُه ساعياً مُجدّاً مطيعا لقانون خالقه. فما اعجب الانسان كيف يشذّ!
FONT=Simplified Arabic
الياء والنون إما: علامة للاعراب فقط كـ "عشرين وثلاثين".. أو للجمعية؛ لأن اجزاء العالم عَوالم.. أو العالمُ ليس منحصراً في المنظومة الشمسية. قال الشاعر:
الَحَمْدُ لله كَمْ لله مِنْ فَلَكٍ تَجرِي النّجُومُ بِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وآثرَ جمعَ العقلاء مثل (رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)[4] اشارةً الى ان نظرَ البلاغة يصوّر كل جزء من أجزاء العالم بصورةِ حيّ عاقلٍ متكلِّم بلسان الحال. اذ العالَم اسمُ مايُعلَمُ به الصانعُ ويشهدُ عليه ويشير اليه. فالتربية والإعلامُ يُومِيان - كالسجود - الى انها كالعقلاء.
(الْرَّحْمن الْرَّحِيمِ)
وجه النظم: انهما اشارتان الى أساسَيْ التربية؛ اذ "الرحمن" لكونه بمعنى الرزاق يلائم جلب المنافع؛ و"الرحيم" لكونه بمعنى الغفار يناسب دفع المضار وهما الاساسان للتربية.
[1] جعل كلمة "الذات" اسماً للحقيقة فزال التأنيث.
[2] الذى يكون وجوده من ذاته ولا يحتاج الى شئ اصلاً.
[3] بعد حذف متعلقها (ت: 17)
[4] سورة يوسف: 4.
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)
اي يوم الحشر والجزاء.
وجه النظم: انه كالنتيجة لسابقه؛ اذ الرحمة من أدلة القيامة والسعادة الابدية؛ لان الرحمة انما تكون رحمةً، والنعمة نعمةً إذا جاءت القيامة وحصلت السعادة الابدية. وإلاّ فالعقلُ الذي هو من اعظم النِعَم يكون مصيبةً على الانسان، والمحبة والشفقة اللتان هما من ألطف انواع الرحمة تتحولان ألماً شديداً بملاحظة الفراق الابدي.
إن قلت: ان الله تعالى مالكٌ لكل شئ دائما فما وجه الاختصاص؟[1]
قلت: للاشارة الى ان الاسباب الظاهرية التي وضَعَها الله تعالى في عالم الكون والفساد لإظهار عظمته - أي لئلا يُرى في ظاهر نظر العقل مباشرةُ يد القدرة بالامور الخسيسة في جهة مُلْك الأشياء - ترتفع في ذلك اليوم وتتجلّى ملكوتيةُ كل شئ صافيةً شفّافةً، بحيث يَرى ويَعرف كلُ شئ سيِّدَه وصانِعَه بلا واسطة. وفي التعبير بلفظ "اليوم" إشارة الى امارة حدسية من امارات الحشر بناء على التناسب البيّن بين اليوم والسنة، وعمر البشر ودوران الدنيا. كالكائن بين اَمْيال الساعة العادّة للثواني والدقائق والساعات والايام. فكما ان مَن يرى ميلاً أتمَّ دَوْرَه يحدس في نفسه ان من شأن الآخر أيضاً ان يتم دوره وإن كان بمهلة؛ كذلك ان من يرى القيامة النوعية المكررة في أمثال اليوم والسنة يتحدس بتولد ربيع السعادة الأبدية في صبح يوم الحشر للإنسان الذي شخصُه كنوعٍ.
والمراد من COLOR=magenta[/COLOR] إمّا الجزاء، أي يوم جزاء الأعمال الخيرية والشرية، أو الحقائق الدينية، أي يوم طلوعها وظهورها وغلبة دائرة الاعتقاد على دائرة الاسباب؛ لأن الله عز وجل أودع بمشيئته في الكائنات نظاماً يربط الاسباب بالمسببات وألجأ الانسان بطبيعته ووهمه وخياله الى ان يراعي ذلك النظام ويرتبط به. وكذا وجّه كل شئ اليه وتَنَزَّه عن تأثير الاسباب في مُلكه. وكلّف الانسان اعتقاداً وايماناً بان يراعي تلك الدائرة بوجدانه وروحه ويرتبط بها.
ففي الدنيا دائرة الاسباب غالبة على دائرة الاعتقاد؛ وفي الأُخرى تتجلى حقائق العقائد غالبة على دائرة الاسباب.
واعلم! ان لكلٍ من هاتين الدائرتين مقاماً معيناً وأحكاماً مخصوصة، فلابد ان يُعطى كلٌّ حقّه. فمن نظر في مقام دائرة الاسباب بطبيعته ووهمه وخياله ومقاييس
[1] في مالك يوم الدين (ت: 19)
الاسباب، الى دائرة الاعتقاد اضطر الى الاعتزال. ومن نظر في مقام الاعتقاد ومقاييسه بروحه ووجدانه الى دائرة الاسباب أنتج له توكلا تَنْبَلِياً[1] وتمرداً في مقابلة المشيئة النظامة.
(اِيَّاكَ نَعْبُدُ)
في "الكاف" نكتتان:
احداهما: تضمن الخطاب بسر الالتفات للاوصاف الكمالية المذكورة، اذ ذكرها شيئاً شيئاً يحرّك الذهن ويُعدّه ويملأُهُ شوقاً ويهزه للتوجه الى الموصوف. فـ"اياك" أي: يامن هو موصوف بهذه الصفات.
والاخرى: ان الخطاب يشير الى وجوب ملاحظة المعاني في مذهب البلاغة ليكون المقروء كالمُنْزَل، فينجر طبعاً وذوقاً الى الخطاب. فـ "ايّاك" يتضمن الامتثال بـ(أُعْبُدْ رَبَّكَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ).
والتكلم مع الغير في (نعبد) لوجوه ثلاثة:
أي نعبد نحن معاشر أعضاء وذرّات هذا العالم الصغير - وهو أنا - بالشكر العرفي الذي هو إطاعة كلٍ لما أُمر به.. ونحن معاشر الموحّدين نعبدك باطاعة شريعتك.. ونحن معاشر الكائنات نعبد شريعتك الكبرى الفطرية[4] ونسجد بالحيرة والمحبة تحت عرش عظمتك وقدرتك.
وجه النظم: ان "نعبد" بيان وتفسير لـ "الحمد" ونتيجة ولازم لـ (مالك يوم الدين).
واعلم! ان تقديم "اياك" للاخلاص الذي هو روح العبادة. وان في خطاب الكاف رمزاً الى علة العبادة لان من اتصف بتلك الاوصاف الداعية الى الخطاب استحق العبادة.
(وَاِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
هذه كـ (ايَّاك نعبد) باعتبار الجماعات الثلاث:
اي نحن معاشر الاعضاء ومعاشر الموحِّدين ومعاشر الكائنات نطلب منك التوفيق والاعانة على كل الحاجات والمقاصد التي أهمها عبادتك.
كرَّرَ "اياك" لتزييد لذة الخطاب والحضور.. ولأن مقام العيان أعلى وأجلّ من مقام البرهان.. ولأن الحضور أدعَى الى الصدق وبأن لايكذب.. ولاستقلال كلٍّ من المقصدين.
واعلم! ان نظم "نستعين" مع "نعبد":
كنظم الاجرة مع الخدمة، لأن العبادة حق الله على العبد، والاعانة إحسانُه تعالى لعبده. وفي حصر "اياك" إشارة الى ان بهذه النسبة الشريفة التي هي العبادة والخدمة له تعالى يترفَّعُ العبد عن التذلل للاسباب والوسائط، بل تصير الوسائطُ خادمةً له وهو لايعرف الا واحدا، فيتجلى حُكْمُ دائرة الاعتقاد والوجدان كما مر. ومن لم يكن خادما له تعالى بحق يصير خادماً للاسباب ومتذللاً للوسائط. لكن يلزم على العبد وهو في دائرة الاسباب ان لايهمل الاسباب بالمرة لئلا يكون متمردا في مقابلة النظام المودع بحكمته ومشيئته تعالى، لأن التوكل في تلك الدائرة عطالة كما مر.
وكنظم المقدِّمة مع المقصود لأن الاعانة والتوفيق مقدمة العبادة.
size=x-large
وجه النظم: انه جواب العبد عن سؤاله تعالى كأنه يسأل: أيّ مقاصدك أعلَقُ بقلبك؟ فيقول العبد: اهدنا.
واعلم! ان "اهدنا" بسبب تعدد مراتب معانيه - بناء على تنوّع مفعوله الى الهادين والمستهدين والمستزيدين وغيرهم - كأنه مشتق من المصادر الاربعة لفعل الهداية. فاهدنا باعتبار معشر "ثبّتنا"، وبالنظر الى جماعة "زدنا"، وبالقياس الى طائفة "وفّقنا" والى فرقة "اَعْطنا".. وأيضا ان الله تعالى بحكم (أعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[1] هدانا بإعطاء الحواس الظاهرة والباطنة، ثم هدانا بنصب الدلائل الآفاقية والأنفسية، ثم هدانا بارسال الرسل وانزال الكتب، ثم هدانا أعظم الهداية بكشف الحجاب عن الحق فظهر الحق حقا والباطل باطلا.
اللَّهُمَّ اَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اِتِّبَاعَهُ وَاَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ.
(الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)
اعلم! أن الصراط المستقيم هو العدل الذي هو ملخص الحكمة والعفة والشجاعة اللاتي هي أوساطٌ للمراتب الثلاث للقوى الثلاث.
توضيحه:
ان الله عز وجل لما اسكن الروحَ في البدن المتحوِّل المحتاج المعروض للمهالك أودع لإدامتها فيه قوىً ثلاثا.
إحداها: القوة الشهوية البهيمية الجاذبة للمنافع.
وثانيتها: القوة الغضبية السَبُعية الدافعة للمضرات والمخرِّبات.
وثالثتها: القوة العقلية الملكية المميزة بين النفع والضر.
لكنه تعالى - بحكمته المقتضية لتَكمُّل البشر بسر المسابقة - لم يحدِّد بالفطرة تلك القوى كما حدد قوى سائر الحيوانات، وإن حدَّدَها بالشريعة؛ لأنها تنهي عن الافراط والتفريط وتأمر بالوسط، يصدع عن هذا (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ)[1]. وبعدم التحديد الفطري يحصل مراتب ثلاث: مرتبة النقصان وهي التفريط، والزيادة وهي الافراط ، والوسط وهي العدل.
فتفريط القوة العقلية الغباوة والبلادة، وافراطها الجربزة[2] الخادعة والتدقيق في سفاسف الامور، ووسطها الحكمة. (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)[3]
اعلم! انه كما تنوع اصل هذه القوة الى تلك المراتب، كذلك كل فرع من فروعها يتنوع الى هذه الثلاث. مثلا: في مسألة خَلق الافعال: مذهبُ أهل السنة وسطُ الجبر والاعتزال[4]، وفي الاعتقاد: مذهبُ التوحيد وسط التعطيل والتشبيه.. وعلى هذه القياسُ.
[1] سورة هود: 112
[2] الجُربُز (بالضم): الخب الخبيث، والمصدر: الجربزة.
[3] سورة البقرة: 269
[4] الجبرية: افراط حيث يحرم الانسان من العمل. والمعتزلة تفريط حيث يمنح التأثير للانسان. اما اهل السنة فهو الوسط، حيث يمنح بداية تلك الافعال الى الارادة الجزئية ونهاياتها الى الارادة الكلية (ت: 24)
وتفريط القوة الشهوية الخمودة وعدم الاشتياق الى شئ، وافراطها الفجور بأن يشتهي ما صادف حَلَّ أو حَرُمَ، ووسطها العفةُ بأن يرغب في الحلال ويهرب عن الحرام. وقس على الاصل كل فرع من فروعاته من الاكل والشرب واللبس وأمثالها.
وتفريط القوة الغضبية الجبانة أي الخوف مما لايُخاف منه والتوهم، وافراطها التهوّر الذي هو والدُ الاستبداد والتحكم والظلم، ووسطها الشجاعة أي بذل الروح بعشق وشوق لحماية ناموس[1] الاسلامية واعلاء كلمة التوحيد. وقس عليها فروعها..
فالاطراف الستة ظلمٌ والاوساط الثلاثة هي العدل الذي هو الصراط المستقيم، اي العملُ بـ (فَاسْتَقِمْ كَما اُمِرْتَ)[2] ومَن مرَّ على هذا الصراط يمر على الصراط الممتد على النار.
(صِرَاطَ الَّذِينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)
اعلم! ان نظم درر القرآن ليس بخيط واحد بل النظم - في كثيرٍ - نقوش تحصل من نسج خطوطِ نسبٍ متفاوتة قُرباً وبُعداً، ظهوراً وخفاء. لان أساس الاعجاز بعد الايجاز هذا النقش. مثلا: صراط الذين انعمت عليهم يناسب:
(الحمد لله) لان النعمة قرينة الحمد..
و(رب العالمين) لان كمال التربية بترادف النِعَم..
و(الرحمن الرحيم) لان المنعم عليهم - اعني الانبياء والشهداء والصالحين - رحمةٌ للعالمين ومثال ظاهر للرحمة..
و(مالك يوم الدين) لان الدين هو النعمة الكاملة..
و(نعبد) لانهم الائمة[3]..
و(نستعين) لانهم الموفقون..
و(اهدنا) لانهم الاسوة بسر (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)[4]..
[1] الناموس: ما يحميه الرجل من اسمه وصيته وشرفه. وفي (التعريفات): هو الشرع الذى شرعه الله.
[2] سورة هود: 112
[3] لانهم الائمة في العبادة (ت: 25)
[4] سورة الأنعام: 90
و(الصراط المستقيم) لظهور انحصار الطريق المستقيم في مسلكهم. هذا مثال لك فقس عليه. .
وفي لفظ "الصراط" إشارة الى ان طريقهم مسلوكة محدودة الاطراف مَن سلكها لايخرج عنها.
وفي لفظ "الذين" - بناء على انه موصول، ومن شأن الموصول ان يكون معهوداً نَصْبَ العين للسامع - اشارة الى علو شأنهم وتلألؤهم في ظلمات البشر، كأنهم معهودون نصب العين لكل سامع وإن لم يتحرَّ ولم يطلب.. وفي جمعيته رمز الى إمكان الاقتداء بهم وحقانية مسلكهم بسر التواتر اذ (يَدُ الله مَعَ الْجَمَاعَةِ)[1]..
وفي صيغة "انعمت" اشارة الى وسيلة طلب النعمة.. وفي نسبتها شافع له كأنه يقول: ياالهي! من شأنك الانعامُ وقد أنعمْتَ بفضلك، فأنْعِمْ عليّ وان لم استحق..
وفي "عليهم" اشارة الى شدة اعباء الرسالة وحمل التكليف، وايماء الى انهم كالجبال العالية تتلقى اعباء الرسالة وحمل التكليف، وايماء الى انهم كالجبال العالية تتلقى شدائد المطر لإفاضة الصحارى. وما أجمل في (الذين انعمت عليهم) يفسره (فَاُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ اَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِييِّنَ والصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء والصَّالِحِينَ)[2] اذ القرآن يفسر بعضه بعضا.
ان قلت: مسالك الانبياء متفاوتة وعباداتهم مختلفة؟
قيل لك: ان التبعية في اصول العقائد والاحكام؛ لانها مستمرة ثابتة دون الفروعات التي من شأنها التغير بتبدل الزمان. فكما ان الفصول الاربعة ومراتب عمر الانسان تؤثر في تفاوت الادوية والتلبّس، فكم من دواء في وقت يكون داء في آخر؛ كذلك مراتب عمر نوع البشر تؤثر في اختلاف فروعات الاحكام التي هي دواء الارواح وغذاء القلوب.
[1] رواه الطبرانى والترمذي وحسّنه بلفظ: "يد الله على الجماعة" (كشف الخفاء 2/391) وصححه محقق الجامع الصغير (7921) وعزاه للحاكم والبيهقى في الاسماء عن ابن عمر رضى الله عنهما وابن عاصم عن اسامة بن شريك.
[2] سورة النساء: 69
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمَْ).
وجه النظم: اعلم! ان هذا المقام لكونه مقام الخوف والتخلية يناسب المقامات السابقة؛ فينظر بنظر الحيرة والدهشة الى مقام توصيف الربوبية بالجلال والجمال، وبنظر الالتجاء الى مقام العبودية في "نعبد"، وبنظر العجز الى مقام التوكل في "نستعين"، وبنظر التسلي الى رفيقه الدائمي أعني مقام الرجاء والتحلية، اذ اوّل ما يتولد في قلب من يرى أمراً هائلا حِسُّ الحيرة ثم ميلُ الفرار ثم التوكلُ عند العجز ثم التسلي بعد ذلك الامر.
ان قلت: ان الله عز وجل حكيم غني فما الحكمة في خلق الشر والقبح والضلالة في العالم؟
قيل لك: اعلم! ان الكمال والخير والحسن في الكائنات هي المقصودة بالذات وهي الكليات؛ وان الشر والقبح والنقصان جزئيات بالنسبة اليها قليلة تبعية مغمورة في الخلقة، خلقها خالقها منتشرة بين الحسن والكمال، لا لذاتها، بل لتكون مقدمة، وواحداً قياسياً، لظهور - بل لوجود - الحقائق النسبية للخير والكمال.
ان قلت: فما قيمة الحقائق النسبية حتى اُستُحسن لأجلها الشرّ الجزئي؟
قيل لك: ان الحقائق النسبية هي الروابط بين الكائنات.. وهي الخطوط المنسوج منها نظامها.. وهي الاشعة المنعكس منها وجود واحد لانواعها. وان الحقائق النسبية أزيدُ بألوفٍ من الحقائق الحقيقية؛ اذ الصفات الحقيقية لذاتٍ لو كانت سبعة كانت الحقائق النسبية سبعمائة. فالشر القليل يُغْتَفَر بل يُسْتَحْسَن لاجل الخير الكثير؛ لان في ترك الخير الكثير - لان فيه شراً قليلاً - شراً كثيراً. وفي نظر الحكمة اذا قابل الشر القليل شراً كثيراً صار الشر القليل حسناً بالغير، كما تقرر في الاصول في الزكاة والجهاد.
وما اشتهر من: "ان الاشياء انما تُعْرَف باضدادها" معناه: ان وجود الضد سبب لظهور ووجود الحقائق النسبية للشئ. مثلا: لو لم يوجد القبح ولم يتخلل بين الحسن لما تظاهر وجود الحسن بمراتبه الغير[1] المتناهية.
[1] يقول البغدادى: "لا تدخل الألف واللام على (غير)؛ لان المقصود من ادخال (أل) على النكرة تخصيصها بشئ معين. فإذا قيل (الغير) اشتملت هذه اللفظة على ما لا يحصى، ولم تتعرف بـ(أل) كما انها لم تتعرف بالاضافة، فلم يكن لإدخال (أل) عليها من فائدة ".
وجاء في المصباح المنير، في مادة (غير) مانصه: "يكون وصفاً للنكرة، تقول: جاءنى رجل غيرك، وقوله تعالى: (غير المغضوب عليهم) انما وصف بها المعرفة، لأنها اشبهت المعرفة باضافتها الى المعرفة، فعوملت معاملتها. ومن هنا اجترأ بعضهم فأدخل عليها الألف واللام؛ لأنها لمّا شابهت المعرفة، باضافتها الى المعرفة، جاز ان يدخلها ما يعاقب الاضافة، وهو الالف واللام...
وارتضى مؤتمر المجمع اللغوى، المنعقد بالقاهرة في دورته الخامسة والثلاثين، في شهر شباط (فبراير) 1969 الرأى القائل: "ان كلمة غير الواقعة بين متضادين تكتسب التعريف من المضاف اليه المعرفة، ويصح في هذه الصورة، التى تقع فيها بين متضادين، وليست مضافة، ان تقترن بـ(أل)، فتستفيد التعريف ". (باختصار عن معجم الاخطاء الشائعة لمحمد العدنانى).
ان قلت: ما وجه تفاوت هذه الكلمات الثلاث: فعلاً، واسم مفعولٍ، واسمَ فاعلٍ، في: "انعمت" و "المغضوب" و "الضالين"؟
وأيضاً ما وجه التفاوت في ذكر: صفة الفرقة الثالثة، وعاقبة الصفة في الفرقة الثانية، وعنوان صفة الفرقة الاولى باعتبار المآل؟
قيل لك: اختار عنوان النعمة؛ لان النعمة لذةٌ تميل النفس اليها.. وفعلاً ماضيا للاشارة الى ان الكريم المطلق شأنه ان لايسترد مايعطى.. وأيضاً رمز الى وسيلة المطلوب بإظهار عادة المنعم، كأنه يقول: لأن من شأنك الانعام وقد أنعَمْتَ فأنْعِم عليّ.
أما (غير المغضوب) فالمراد منه: الذين تجاوزوا بتجاوز القوة الغضبية فظلموا، وفسقوا بترك الاحكام كتمرد اليهود. ولما كان في نفس الفسق والظلم لذة منحوسة وعزة خبيثة لا تتنفر منه النفس ذَكَرَ القرآنُ عاقبته التي تُنَفِّر كلَّ نفسٍ وهي نزول غضبه تعالى.. واختار الاسم الذي من شأنه الاستمرار اشارة الى ان العصيان والشر انما يكون سمة اذا لم ينقطع بالتوبة والعفو.
أمّا (ولا الضَّالين) فالمراد منه: الذين ضلوا عن الطريق بسبب غلبة الوهم والهوى على العقل والوجدان ووقعوا في النفاق بالاعتقاد الباطل كسفسطة النصارى. اختار القرآن نفسَ صفتهم لان نفسَ الضلالة أَلَمٌ، ينفر النفس ويجتنب منه الروح وإن لم يرَ النتيجة.. وإسماً لأن الضلالة انما تكون ضلالة اذا لم تنقطع.[1]
[1] إذ انقطاعها اشارة الى دخولها ضمن العفو (ت: 29)
واعلم! ان كل الالم في الضلالة وكل اللذة في الايمان.
فإن شئت تأمل في حال شخص، بينما اخرجَتْه يدُ القدرة من ظلمات العدم وألقَتْهُ في الدنيا - تلك الصحراء الهائلة - اذ يفتح عينيه مستعطفا، فيرى البليات والعلل كالاعداء تتهاجم عليه، فينظر مسترحماً الى العناصر والطبائع فيراها غليظة القلب بلا رحمة قد كشرت عليه الاسنان؛ فيرفع رأسه - مستمداً - الى الاجرام العلوية فيراها مهيبة ومدهشة تهدده كأنها مرامي[1] نارية من أفواه هائلة تمر حواليه؛ فيتحير ويخفض رأسه متستراً ويطالع نفسه؛ فيسمع الوفَ صيحاتِ حاجاته وأنين فاقاته، فيتوحش، فينظر الى وجدانه ملتجأً؛ فيرى فيه الوفاً من آمال متهيجةٍ ممتدةٍ لاتُشبعها الدنيا.
فبالله عليك كيف حال هذا الشخص ان لم يعتقد بالمبدأ والمعاد والصانع والحشر؟ أتظن جهنم أشدَّ عليه من حاله وأحرقَ لروحه؟ فإن له حالة تركبت من الخوف والهيبة والعجز والرعشة والقلق والوحشة واليتم واليأس؛ لأنه اذا راجع قدرته يراها عاجزة ضعيفة؛ واذا توجه الى تسكين حاجاته يراها لاتسكت؛ واذا صاح واستغاث لايُسْمَع ولا يُغاث فيظن كل شئ عدواً، ويتخيل كل شئ غريبا فلا يستأنس بشئ؛ ولا ينظر الى دوران الاجرام الاّ بنظر الخوف والدهشة والتوحش المزعجة للوجدان.
ثم تأمل في حال ذلك الشخص اذا كان على الصراط المستقيم واستضاء وجدانهُ وروحُه بنور الايمان، كيف ترى انه اذا وضع قدمه في الدنيا وفتح عينيه فرأى تهاجم العاديات الخارجية يرى اذاً "نقطة استناد" يستند اليها في مقابلة تلك العاديات، وهي معرفة الصانع فيستريح. ثم اذا فتش عن استعداداته وآماله الممتدة الى الأبد يرى "نقطة استمداد" يستمد منها آماله وتتشرب منها ماء الحياة وهي معرفة السعادة الابدية. واذ يرفع رأسه وينظر في الكائنات يستأنس بكل شئ وتجتني عيناه من كل زهرة اُنسية وتحبّبا، ويرى في حركات الأجرام حكمةَ خالقها ويتنزّه بسيرها وينظر نظر العبرة والتفكر. كأن الشمس تناديه: أيها الأخ! لاتتوحش مني فمرحبا بقدومك! نحن كلانا خادمان لذاتٍ واحد، مطيعان لأمره. والقمر والنجوم والبحر وأخواتها يناجيه كلٌ منها بلسانه الخاص وترمز اليه: بأهلاً وسهلاً، أما تعرفنا ؟ كلنا مشغولون
[1] قنابل وقذائف.
بخدمة مالكك فلا تضجر ولا تتوحش ولا تخف من تهديد البلايا بنعراتها، فان لجام كلٍ بيد خالقك.
فذلك الشخص في الحالة الاولى يحس في أعماق وجدانه ألماً شديداً فيضطر للتخلص منه وتهوينه وابطال حسه بالتسلي، بالتغافل، بالاشتغال بسفاسف الأمور، ليخادع وجدانه وينام روحُه؛ والا احس بألمٍ عميق يحرق أعماق وجدانه. فبنسبة البُعْدِ عن الطريق الحق يتظاهر تأثير ذلك الالم.
وأما في الحالة الثانية فهو يحس في قعر روحه لذةً عالية وسعادة عاجلة كلما أيقظ قلبه وحرَّك وجدانه وأحسّ روحه استزاد سعادة واستبشر بفتح أبواب جنات روحانية له.
اَللَّهُمَّ بِحُرْمَةِ هذِهِ السُّورَةِ اِجْعَلْنَا مِنْ اَهْلِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
منقول من تفسير إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز لبديع الزمان سعيد النورسي
***