رد: رمضان يا شهر الصيام!!!
ان صيام رمضان من حيث تطلعه لكسب الانسان - الذي جاء الى الدنيا لأجل مزاولة الزراعة الاُخروية وتجارتها - له حكم شتى. الا اننا نذكر واحدة منها هي:
ان ثواب الاعمال في رمضان المبارك يضاعَف الواحدُ الى الالف. ومن المعلوم أن كل حرف من القرآن الحكيم له عشر أثوبة، ويعدّ عشر حسنات، ويجلب عشرثمار من ثمرات الجنة - كما جاء في الحديث الشريف - ففي رمضان يولّد كل حرف ألفاً من تلك الثمرات الأخروية بدلاً من عشرٍ منها، وكل حرف من حروف آيات - كآية الكرسي - يفتح الباب أمام الالوف من تلك الحسنات لتتدلى في الآخرة ثماراً حقيقية. وتزداد تلك الحسنات باطراد أيام الجُمع في رمضان، وتبلغ الثلاثين ألفاً من الحسنات ليلة القدر.
نعم، ان القرآن الكريم الذي يهب كل حرف منه ثلاثين ألفاً من الثمرات الباقية يكون بمثابة شجرة نورانية - كشجرة طوبى الجنة - بحيث يُغنِم المؤمنين في رمضان المبارك تلك الثمرات الدائمة الباقية التي تعد بالملايين.. تأمل هذه التجارة المقدسة الخالدة المُربِحة وأجل النظر فيها، ثم تدبر في أمر الذين لا يقدّرون قيمة هذه الحروف المقدسة حق قدرها، ما أعظم خسارتهم وما أفدحها؟
وهكذا، فان شهر رمضان المبارك أشبه ما يكون بمعرض رائع للتجارة الاُخروية او هو سوق في غاية الحركة و الربح لتلك التجارة وهو كالارض المنبتة في غاية الخصوبة والغَناء لإنتاج المحاصيل الاُخروية.. وهو كالغيث النازل في نيسان لإنماء الاعمال وبركاتها.. وهو بمثابة مهرجان عظيم وعيد بهيج مقدّس لعرض مراسيم العبودية البشرية تجاه عظمة الربوبية وعزة الالوهية.
لأجل كل ذلك فقد أصبح الانسان مكلَّفاً بالصوم، لئلا يلج في الحاجات الحيوانية، كالأكل والشرب من حاجات النفس بالغفلة، ولكي يتجنب الانغماس في شهوات الهوى وما لا يعنيه من الامور.. وكأنه أصبح بصومه مرآة تعكس "الصمدانية" حيث قد خرج مؤقتاً من الحيوانية ودخل الى وضع مشابهٍ للملائكية، أو أصبح شخصاً اُخروياً وروحاً ظاهرة بالجسد، بدخوله في تجارة اُخروية وتخلّيه عن الحاجات الدنيوية المؤقتة.
نعم، ان رمضان المبارك يكسب الصائم في هذه الدنيا الفانية وفي هذا العمر الزائل وفي هذه الحياة القصيرة عمراً باقياً وحياة سرمدية مديدة، ويتضمن كلها. فيمكن لشهر رمضان واحد فقط أن يمنح الصائم ثمرات عمر يناهز الثمانين سنة. وكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر - بنص القرآن الكريم - حجة قاطعة لهذا السر.
فكما يحدد سلطان أياماً معينة في فترة حكمه، أو في كل سنة، سواء باسم تسنمه عرش الحكم أو أي يوم آخر من الايام الزاهرة لدولته، جاعلاً من تلك الايام مناسبات وأعياداً لرعيته، فتراه لا يعامل رعيته الصادقين المستحقين في تلك الايام بالقوانين المعتادة، بل يجعلهم مظهراً لأحسانه وانعامه وأفضاله الخاصة. فيدعوهم الى ديوانه مباشرة دون حجب، ويخصّهم برعايته الخاصة ويحيطهم بكرمه وباجراءاته الاستثنائية، ويجود عليهم بتوجهاته الكريمة.. كذلك القادر الازلي ذو الجلال والاكرام وهو سلطان الازل والابد وهو السلطان الجليل لثمانية عشرألف عالم من العوالم، قد أنزل سبحانه في شهر رمضان أوامره الحكيمة السامية وقرآنه الحكيم المتوجه الى تلك الالوف من العوالم، لذا فان دخول ذلك الشهر المبارك في حكم عيد ومناسبة إلهية خاصة بهيجة، وفي حكم معرض بديع رباني، ومجلس مهيب روحاني، هو من مقتضى الحكمة. فما دام شهر رمضان قد تمثل بتلك المناسبة البهيجة وذلك العيد المفرح فلابد أن يؤمَر فيه بالصوم، ليسمو الناس - الى حدٍ ما - على المشاغل الحيوانية السافلة. فالكمال في ذلك الصوم هو جعل جميع حواس الانسان كالعين والاذن والقلب والخيال والفكر على نوع من الصوم، كما تقوم به المعدة. أي تجنيب الحواس تلك من المحرمات والسفاهات وما لا يعنيها من أمور، وسوقها الى عبودية خاصة لكل منها.
فمثلاً: يروّض الانسان لسانه على الصوم من الكذب والغيبة والعبارات النابية ويمنعه عنها، ويرطب ذلك اللسان بتلاوة القرآن الكريم وذكر الله سبحانه والتسبيح بحمده والصلوات والسلام على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والاستغفار، وما شابهه من أنواع الاذكار.
ومثلاً: يغض بصره عن المحرمات، ويسد أذنه عن الكلام البذئ، ويدفع عينه الى النظر بعبرةٍ واُذنَه الى سماع الكلام الحق والقرآن الكريم. ويجعل سائر حواسه على نوع من الصيام.
ومن المعلوم أن المعدة التي هي مصنع كبير جداً إن عطّلت أعمالَها بالصيام فان تعطيل المعامل الصغيرة الاخرى يكون سهلاً ميسوراً.