بسم الله الرحمن الرحيم
(ومَاخَلَقْت الْجِنَ والانْسَ الاَّ لِيَعْبُدونِ)[1]
اعلم![2] يا ايها السعيد الناسي لنفسك، ولوظيفة حياتك!. الغافِل عن حكمة خلقة الانسان، الجاهلِ بما أوضع الصانعُ الحكيمُ في هذهِ المصنوعات المزيَّنة!.. ان مَثَل بناء هذا العالم وادخال العالم الانساني فيه، كمثل سلطان له خزائن فيها اصناف الجواهر، وله كنوز مخفية، وله مهارة في صنع الغرائب، وله معرفة بعجائب فنون لا تعد وبغرائب علوم لا تحد. فاراد ذلك الملك. ان يظهر على رؤس الاشهاد حشمةَ سلطنتِهِ وشعشعة ثروته وخوارقَ صنعتِه وغرائبَ معرفته، اي ان يشهد كماله وجماله وجلاله المعنوية بالوجهين؛ بنظره، ونظر غيره.
فبنى قصراً جسيماً ذا منازل وسرادقات. فزينها بمرصعات جواهر كنوزه، ونقشها بمزينات لطائف صنعته، ونظمها بدقائق فنون حكمته، ووسمها بمعجزات آثار علومه، وفرش فيها سفرة لذيذات نعمه ونعمته. وهكذا مما يظهر بمثله الكمالات الخفية. فدعى رعيته للسير والتنزه، واضافهم بضيافة لا مثل لها، كأن كل لقمة منها انموذج مئات صنعة لطيفة. ثم عين استاذاً لتعريف ما في ذلك القصر من رموز تلك النقوش واشارات تلك الصّنائع، ووجوه دلالات تلك المرصعات المنظومات والجواهر الموزونات على كمالات صاحبها، ولتعليم الناس آداب الدخول والمعاملات مع صانع القصر، فيقول لهم:
ايها الناس ! ان مليكي يتعرف اليكم باظهار ما في هذا، فاعرفوه.. ويتودد اليكم بهذه التزيينات فتوددوا اليه بالاستحسانات.. ويتحبب اليكم بهذه الاحسانات فاحبوه.. ويرحم اليكم فاشكروه.. ويتظاهر اليكم فاشتاقوا اليه. وهكذا مما يليق بمثله ان يقول للداخلين. فدخل الناس فافترقوا فرقتين: ففريق نظر الى ما في القصر، فقالوا: لهذا شأن عظيم، فنظروا الى المعلم الاستاذ فقالوا: السلام عليك! لابد لمثل هذا، من مِثلِكَ.. فَعَلّمْنَا ممّا علمك سيدُك.. فنطق فاستمعوا فاستفادوا فعملوا بمرضيات الملِك.. ثم دعاهم الملك لقصر خاص لا يوصف، فاكرمهم بما يليق بمثله لمثلهم في مثل ذلك القصر..
[1]الذاريات: 56
[2]الدرس العاشر من"المدخل الى النور" وهو خلاصة الكلمة الحادية عشرة ونواتها.
والفريق الآخر: ما التفتوا الى شئ غير الاطعمة، فتعاموا وتصاموا، فاكلوا اكلَ البهائم فتناموا، وشربوا من الاكسيرات التى لا تشرب، فسكروا فتنهقوا، فشوشوا على الناظرين، فاخذهم جنوده فطرحهم في سجن يليق بهم. مسبحين، ثم صاروا دلالين لبدايع جلوات الاسماء القدسية، فسبحوا حامدين وصاروا فاهمين بالطبع بحواسهم لمدخرات خزائن الرحمة فحمدوا شاكرين. ثم صاروا عالمين بجواهر كنوز الاسماء المتجلية بالوزن بموازين جهازاتهم فقدسوا مادحين.ثم صاروا مطالعين لمكتوبات قلم القدرة، فاستحسنوا متفكرين. ثم صاروا متنزهين برؤية لطائف الفطرة، فاحبوا الفاطر مشتاقين. ثم قابلوا تَعَرُّفَ الصانع اليهم بمعجزات صنعته بالمعرفة في الحيرة فقالوا: سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروف، بمعجزات جميع مصنوعاتك.. ثم قابلوا تودده اليهم بمزينات ثمرات الرحمة بالمحبة. ثم قابلوا تعطّفه وتعهده لهم بلذائذ نعمه بالمحمدة والشكر، فقالوا: سبحانك ما شكرناك حق شكرك يامشكورُ، بأثنية جميع احساناتك على رؤوس الاشهاد، وباعلانات جميع نعمتك ولذائذها في سوق الكائنات، وبشهادات نشائد منظومات جميع ثمرات رحمتك ونعمتك لدى انظار المخلوقات. ثم قابلوا اظهاره لكبريائه وكماله وجماله وجلاله في مظاهر الكائنات ومرايا الموجودات السيالة بالسجود في المحبة في الحيرة في المحوية. ثم قابلوا اراءته وسعة رحمته وكثرة ثروته بالفقر والسؤال. ثم قابلوا تشهيره للطائف صنعته بالتقدير والاستحسان والمشاهدة والشهادة والاشهاد. ثم قابلوا اعلانه لسلطنة ربوبيته في اقطار الكائنات بالتوحيد، بالاطاعة والعبودية باعلان عجزهم في ضعفهم وفقرهم في فاقتهم. فادوا وظائف حياتهم في هذه الدار، حتى صاروا في احسن تقويم، اعلى من كل الخلق خليفة اميناً ذا امانة، ويمُن وايمانٍ. ثم دعاهم ربُّهم الى دار السلام للسعادة الابدية فاكرمهم بما لاعينٌ رأت، ولا اذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
واما الفريق الآخر الفجار الاشرار، فكفروا فحقَّروا بالكفر جميعَ الموجودات باسقاط قيمتها كما مر سابقاً. وردوا جميع تجليات الاسماء فجنوا جناية غير متناهية فاستحقوا عقاباً غير متناه.
ايها السعيد المسكين!. اتحسب ان وظيفة حياتك حُسنَ محافظةِ النفس والتربية المدنية وخدمة البطن والهوسات؟.. ام تحسب ان غاية ادراج هذه الحواس والحسيات، والجوارح والجهازات، والاعضاء والآلات، واللطائف والمعنويات في ماكنة حياتك استعمالها في هوسات النفس الدنية في هذه الحياة الفانية؟ كلا! بل ما
وانت تعلم ان الملك لما بنى هذا القصر لهذه المقاصد، وحصول هذه المقاصد مربوط بوجود هذا
الاستاذ، وباستماع الناس له.. يحق ان يقال: لولا هذا الاستاذ لما بنى الملك القصر. واذا لم يستمع الناس لتعليمات الاستاذ المبلِّغ يخرب القصر ويبدل.
واذا تفطنت لسر التمثيل فانظر الى صورة الحقيقة.. واما القصر فهذا العالم الذي نوّر سقفه بمصابيح متبسمة، وزيّن فرشه بازاهير متزينة. واما الملك فهو سلطان الازل والابد الذي: (تُسَبحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ والارْضُ وََمَنْ فيهِنَّ وانْ مِن شَئٍ اِلاَّ يُسَبحُ بحمدِه)ِ[1] (الله الذَّي خَلَقَ السَّمــواتِ والارضَ في سِتَّةِ ايّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْش يُغشى اللَّيْلَ النَّهار يَطْلُبُهُ حَثيثاَ والْشَمْسَ والقَمَرَ والْنُجُومَ مُسَخَّراتٍ بِاَمْرِهِ)[2]. واما المنازل فالعوالم المزينة كل بما يناسبه. واما الصنائع الغريبة فهي معجزات قدرته. واما الاطعمة فهي خوارق ثمرات رحمته. واما المطبخ والتنور فالارض وسطحها. واما الكنوز المخفية وجواهرها فالاسماء القدسية وجلواتها. واما النقوش ورموزها فمنظوماته المصنوعات المرموزات ودلالاتها على اسماء نقاشها. واما الاستاذ المعلم ورفقائه وتلامذته فسيدنا محمد والانبياء عليهم الصلاة والسلام والاولياء رضي الله عنهم. . واما حواشي الملك في القصر فالملائكة عليهم الصلاة والسلام.. واما المسافرون المدعوون للسير والضيافة؛ فالانسان مع حواشيه من الحيوانات. واما الفريقان؛ فاهل الايمان والقرآن الذي يفسّر لأهله معاني آيات كتاب الكائنات. والفريق الآخر؛ اهل الكفر والطغيان التابعون للنفس والشيطان صمّ بكم عمي هم (كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ اَضَلُّ)[3] لا يفهمون الا الحياة الدنيوية..
فاما السعداء الابرار فاستمعوا للعبد الواصف لربه "بالجوشن الكبير" وللمبلغ بدلالته للقرآن الكريم. وانصتوا للقرآن، فصاروا نظارين لمحاسن سلطنة الربوبية، فكبروا
حكمة ادراجها في فطرتك، الا احساسُك جميع انواع نِعَمه تعالى، وإذاقة معظم اقسام تجليات اسمائه. فما غاياتها، الا ان تزن بتلك الموازين مدخرات خزائن رحمته، وان تفتح بتلك الجهازات مخفيات كنوز جلوات اسمائه جل جلاله؛ بل ما غايات حياتك الا اظهارك وتشهيرك بين اخوانك المخلوقات ما في حياتك من غرائب جلوات اسمائه.. ثم اعلانك بحالك وقالك عند باب ربوبيته عبوديتك.. ثم تبرجك وتزيّنك بمرصعات جواهر جلوات اسمائه للعرض والظهور لنظر شهود الشاهد الازلي.. ثم فهمك لتحية ذوي الحياة بالتسبيحات لواهب الحياة، ومشاهدتك لها، وشهادتك بها، واشهادك عليها.. ثم فهمك بمقياسية جزئيات صفاتك وشؤونك لصفات خالقك وشؤونه المطلقة المقدسة.. ثم فهمك الكلمات الموجودات الناطقات بتوحيده وربوبيته.. ثم تفطنك بامثال عجزك وفقرك لدرجات تجليات قدرته وغناه.
وما ماهية حياتك، الا خزينة وخريطة وانموذج وفذلكة ومقياس وميزان وفهرستة لغرائب اثار جلوات اسماء خالق الموت والحياة.
وما صورة حياتك، الا كلمة مكتوبة مسموعة مفهّمة لاسمائه الحسنى. وما حقيقتها الا، مرآتيتها لتجلي الاحدية. وما كمالها في سعادتها، الا شعورها بما تمثل فيها مع المحبة والشوق لما هي مرآة له، واما سائر ذوي الحياة فيشاركونك في بعض الغايات المذكورة لكن لا يساوونك، اذ انت المرآة الجامعة كما رُوى :"ما يسعنى ارض ولا سماء ويسعنى قلب عبدي المؤمن"[1]
[1]الحديث "ما وسعني سمائي ولا ارضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن".
ذكره في الاحياء بلفظ مقارب. قال العراقي في تخريجه: لم ار له أصلاً (كشف الخفاء للعجلوني 2/195 باختصار). وقال السيوطي في الدرر المنتثرة: قلت اخرج الامام احمد في الزهد عن وهب بن منبه: ان اللهفتح السموات لحزقيل حتى نظر الى العرش فقال حزقيل: سبحانك ما اعظمك يارب! فقال الله: ان السموات والارض ضعفن ان يسعنني ووسعني قلب المؤمن الوادع اللين« اهـ .
قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية: وذكرُ جماعةٍ له من الصوفية لا يريدون حقيقة ظاهره من الاتحاد والحلول لأن كلاً منهما كفر، وصالحو الصوفية اعرف الناس بالله وما يجب له وما يستحيل عليه، وانما يريدون بذلك ان قلب المؤمن يسع الايمان بالله ومحبته ومعرفته. ا هـ .