بِسْم الله الرّحمن الرّحيم
استاذ التفسير والفكر الاسلامي
الحمـدلله رب العـالميـن، والصـلاة والسلام على من اُنزل عليه القرآن الحكيم محمد بن عبدالله خاتم الانبياء والرسل، وعلى آله واصحابه والتابعين لهم باحسان الى يوم الدين.
اما بعد:
فيكاد يجمع المنصفون من العلماء والدارسين المطلعين على تطور اوضاع المسلمين في العصور الاخيرة، ان الاستاذ الجليل بديع الزمان سعيد النورسى، كان شخصية اسلامية كبيرة، صادق الايمان، عظيم الاخلاص، عزيز النفس، عارفاً بحقائق التوحيد، نابغة من نوابغ الزمان، غزير العلم، نافذ الفكر، داعية ثبتاً الى الله تعالى على بصيرة، حمل هموم المسلمين منذ شبابه، وقضى حياته في الجهاد الدائب في سبيل توضيح عقيدة الاسلام وبيان علل احكامه، ودحض الافكار المنحرفة والفلسفات الجاحدة المناقضة له والتخطيط العملي لاجل انقاذ المسلمين من الغزو الفكري الجارف الذي تعرضوا له منذ اوائل القرن الرابع عشر الهجري، بل قبله.
ولقد لقى، رحمه الله تعالى في سبيل ذلك مالقى، مما ليس جزاؤه الا عند الله تعالى البصير بعباده الصالحين واوليائه الصادقين وعلمائه المجاهدين، الذين صدقوا العهد مع الله تعالى، ولم يخشوا فيه سبحانه لومة لائم.
لقد استطاع الاستاذ النورسى ان يصقل موهبته الفذة بدراسة العلوم الاسلامية والفلسفات القديمة والعلوم الانسانية والصرفة المعاصرة، زيادة على اطلاعه الواسع على الادب والبلاغة العربية في كتب امثال الجاحظ والزمخشري والسكاكي لاسيما كتب النحوي البلاغي الكبير الامام عبد القاهر الجرجاني حيث آمن بنظريته المشهورة في النظم واعجب بها ايما اعجاب في هذا الكتاب.
ولم تكن نظرية النظم جديدة اخترعها الجرجاني من غير مقدمات، وانما لفت النظر اليها الجاحظ في كتابه نظم القرآن والواسطي في كتابه اعجاز القرآن في نظمه والباقلاني في كتابه اعجاز القرآن غير ان الجرجاني شرحها شرحا نحويا بيانيا وافيا مترابطا وصاغ منها نظرية متكاملة تقوم على اساس عدم الفصل بين اللفظ ومعناه وبين الشكل والمضمون وقرر ان البلاغة في النظم لافي الكلمة المفردة ولا في مجرد المعاني، دون تصوير الالفاظ لها. وبناء على ذلك فانه يعرّف النظم بانه: تعليق الكلمة بعضها على بعض ، وجعل بعضها بسبب من بعض، اي تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه واصوله وتعرف مناهجه فلا تزيغ عنها.
وكأني بالاستاذ النورسى درس نظرية النظم هذه دراسة متقنة ثم ظهر له ان المفسرين الذين سبقوه كالزمخشري والرازي وابي السعود لم يحاولوا تطبيقها من حيث هي منظومة متكاملة تشمل ترتيب السور والآيات والالفاظ سورة بعد سورة وآية بعد آية ولفظا بعد لفظ، بتفاصيلها الكاملة فاراد ان يقتدي بهؤلاء المفسرين العظام فيؤلف تفسيراً يطبق فيه نظرية النظم تطبيقاً تفصيلياً شاملاً من حيث المباني والمعاني ومن حيث المعارف اللغوية والعقلية والذوقية، الكلية منها والجزئية، والتي اعتمد عليها في الكشف عن تفاصيل المنظومة القرآنية التي بها يظهر الاعجاز، وتتكشف دقائق خصائص الاسلوب القرآني التي خالفت خصائص التعبير العربي البليغ قبله، والتي حيرت البلغاء واخرست الفصحاء، ليحق عليهم التحدي المعجز الى يوم القيامة.
ولم تتوجه جهود النورسى الى بيان نظرية النظم، مقدمة لاثبات اعجاز القرآن البلاغي فحسب، بل اتجهت كذلك الى التغلغل في معاني الآيات، حيث اراد بناءها تفصيلاً على المرتكزات العقلية للوصول الى اظهار العقائد الاسلامية وارتباطها بحقائق الوجود.
ومن الواضح جدا لمن تأمل في الكتاب وترتيبه، انه كان يريد ان يؤلف تفسيراً كاملاً في هذا الاتجاه. ولو قدر للاستاذ - رحمه الله تعالى - ان ينهي عمله العظيم هذا كاملاً، اذن لقدّم تفسيراً بلاغياً وعقلياً كاملاً شاملاً، كان جديراً بان يأخذ منه عمره كله حيث كان من المحقق ان يحوي حينئذ عشرات المجلدات الضخام ، لو انه مشى في ضوء منهجه هذا الذي نقرأه في هذا الكتاب.
ولكن الله سبحانه وتعالى قدّر له الافضل من ذلك اذ وفقه لعمل اجلّ من ذلك واعظم. عمل استطاع فيه ان يضع مسلمي بلده في ظروف عصره في مواجهة القرآن الكريم، دون اشغالهم بقضايا بلاغته واعجازه اللغوي والتي لم تكن مشكلة عصره من خلال التحقيق في جزئيات دقيقة لا يقوى على فهمها الا الخواص جداً. وكان من المؤكد حينئذ ان يبقى الجمهور الاعظم من المسلمين في عصره بمعزل عن الاستفادة من مواهبه الفذة وحماسه الايماني المنقطع النظير، وكذلك بمعزل عن الصراع الفكري الحضاري الرهيب غير المتكافئ مع الغزو الفكري المادي الجاحد، الذي بدأ يتسلل رويداً رويداً الى الحياة الاسلامية حتى تصدر السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن والاعلام في كثير من بلاد الاسلام.
من اجل ذلك، وقف النورسى عند هذا المجلد من التفسير، ودفعته ظروف عصره وبلده الى اتون الصراع، ولكن في قالب جديد ممثلا بـسعيد الجديد سمتُه الهدوء، والتدرج، والبناء، والنفوذ المحكم الى عقول المسلمين وقلوبهم دون صراخ عاطفي او تهريج مدمر، او صدامات فوقية، لم يكن الوضع الاسلامي يومئذ مهيئا لها ويقوى فيها على مجابهة الاعداء الاقوياء في الداخل والخارج.
لقد كان اسلوب رسائل النور في وضوحه الحاسم، وهدوئه العلمي الباهر، وبيانه الذوقي الرفيع، وحججه العقلية الدامغة هو البديل العصري الذكي لاسلوب اثبات اعجاز القرآن اللغوي والبياني والعقلي من خلال نظرية النظم، لان ما اثاره الاعداء لم يكن يتصل بالطعن في بلاغة القرآن او مناقشة ما يتعلق باعجازه او بتناسب سوره وآيه وكلماته. وانما كان يركز على شن هجوم عام شامل على اصول الايمان، وحكمة التشريعات، ومحاولة تفكيك النظام الاخلاقي الذي جاء به القرآن الكريم.
لقد وعى الاستاذ النورسى التغييرات الهائلة التي احدثها الصراع الجديد فتوجّه اليها بحقائق القرآن التي قدمها من خلال اصول المنطق العقلي الفطري وعلوم ومعارف عصره.
انه استطاع ان يثبت من خلال جزء كامل من هذا الكتاب اعجاز القرآن الكريم وبرهن للدارسين وطلاب الحقيقة، انه من السهل ان يستمر في ضوء منهجه العلمي والعقلي والذوقي الرفيع الى النهاية، اذن فليكن هذا كافيا، وليتوجه بكليته وبقية حياته العامرة الى القضية الاساس، وهي انقاذ ايمان المسلمين في عصر الصراع الاعلامي الرهيب، فأنتج في هذا المجال ايما انتاج من خلال عشرات الكتب والرسائل التي وجهها الى النشئ الجديد، لإلحاق الهزيمة العقيدية والفكرية باعداء الاسلام من الملاحدة وارباب التغريب.
على انني اظلم هذا الكتاب اذا ادعيت انه خلا من منهج مواجهة الصراع الجديد، بل ازعم هنا - على قدر ما لي من علم بافكار النورسى من خلال قراءتى لبعض رسائله في عهده الجديد - انه مامن فكرة شرحها او بسطها او مثَّل عليها الا تجد لها بذوراً موجزة او مفصلة في هذا الكتاب العلمي الرصين الذي بين يديك، لاسيما في عرض اصول العقائد الاسلامية باسلوب عصري علمي. غير انه اتجه في كتابه هذا الى مخاطبة خاصة تلامذته من خلال دمج المصطلحات الكلامية القديمة ببدايات منهجه الجديد الذي استقر عليه فيما بعد في رسائل النور.
ولعل هذا هو سر تسمية رسائل النور بانها تفسير حقيقي للقرآن الكريم، والحق ان تفسير القرآن ومخاطبة المسلمين بآياته لم يبارح قط فكر النورسى الى آخر لحظة من لحظات حياته الحافلة بالمحن والاحزان، والعلم والدعوة الى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
لقد احسن الاستاذ الفاضل احسان قاسم الصالحي بتحقيقه هذا الكتاب من جديد، حيث اغناه بتدقيقاته المفيدة وشروحه القيمة في الحواشي، وهذا فضل يكمل به افضاله السابقة على قراء العربية حين قضى سنوات عدة في ترجمة مجموعة متنوعة من رسائل النور التي دبجها يراع الامام الممتحن سعيد النورسى حجة الاسلام بحق في حياة تركيا الحديثة.
فجزى الله الاستاذ النورسى خير الجزاء ونفع المسلمين بعلمه وحججه الدامغة وكلماته النورانية الصادقة في خدمة كتاب الله تعالى وسنة رسوله الاكرم صلى الله عليه وسلم.
وفي ختام هذه الكلمات ادعو الله تعالى ان يوفق المحقق الكريم الى تقديم ترجمة كاملة لرسائل النور الى قراء العربية المجيدة
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
كلية التربية - جامعة بغداد