عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا فقراً منسياً ، أو غنى مطغياً ، أو مرضاً مفسداً ، أو هرماً مفنداً ، أو موتاً مجهزاً ، أو الدجال فشر غائب ينتظر ، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر ) . رواه الترمذي وقال : حديث حسن (38).
سبق لنا أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكر في أحاديث متعددة ؛ ما يدل على أنه من الحزم أن يبادر الإنسان بالأعمال الصالحة ، وفي هذا الحديث أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أشياء متعددة ، ينبغي للإنسان أن يبادر بالأعمال حذراً منها . فقال : ( بادروا بالأعمال سبعاً ) : يعني سبعة أشياء كلها محيطة بالإنسان ؛ يخشى أن تصيبه ، منها الفقر . قال : ( هل تنظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً ) . الإنسان بين حالتين بالنسبة للرزق : تارة يغنيه الله ـ عز وجل ـ ويمده بالمال ، والبنين ، والأهل ، والقصور ، والمراكب ، والجاه ، وغير ذلك من أمور الغنى ، فإذا رأى نفسه في هذه الحال ؛ فإنه يطغى والعياذ بالله ، ويزيد ويتكبر ، ويستنكف عن عبادة الله ، كما قال تعالى : ( كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق:6-8) ، يعني : مها بلغت من الاستغناء والعلو ؛ فإن مرجعك إلى الله .
ونحن نشاهد أن الغنى يكون سبباً للفساد والعياذ بالله ، تجد الإنسان في حال فقره مخبتاً إلى الله ، مبنياً إليه ، منكسر النفس ، ليس عنده طغيان ، فإذا أمده الله بالمال ؛ استكبر ـ والعياذ بالله ـ وأطغاه غناه .
أو بالعكس : ( فقراً منسياً ) الفقر : قلة ذات اليد ، بحيث لا يكون مع الإنسان مال ، فالفقر ينسي الإنسان مصالح كثيرة ؛ لأنه يشتغل بطلب الرزق عن أشياء كثيرة تهمه ، وهذا شيء مشاهد ؛ ولهذا يخشى على الإنسان من هذين الحالين ؛ إما الغنى المطغي ؛ أو الفقر المنسي . فإذا من الله على العبد بغنى لا يطغي ، وبفقر لا ينسي ، وكانت حاله وسطاً ، وعبادته مستقيمة ، وأحواله قويمة ، فهذه هي سعادة الدنيا .
وليست سعادة الدنيا بكثرة المال ؛ لأنه قد يطغي ؛ ولهذا تأمل قوله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97) ، لم يقل : من عمل عملاً صالحاً من ذكر أو أنثى فلنوسعن عليه المال ولنعطينه المال الكثير ، قال : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) ؛ إما بكثرة المال أو بقلة المال ، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله في الحديث القدسي : ( إن من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى ، وإن من عبادي من لو أفقرته لأفسده الفقر )(39) . وهذا هو الواقع ، من الناس من يكون الفقر خيراً له ، ومن الناس من يكون الغنى خيراً له ، ولكن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حذر من غنى مطغٍ وفقر منسٍ .
الثالث : قال : ( أو مرضاً مفسداً ) المرض يفسد على الإنسان أحواله ، فالإنسان ما دام في صحة ؛ تجد منشرح الصدر ، واسع البال ، مستأنساً ، لكنه إذا أصيب بالمرض انتكب ، وضاقت عليه الأرض ، وصار همه نفسه ، فتجده بمرضه تفسد عليه أمور كثيرة ، لا يستأنس مع الناس ، ولا ينبسط إلى أهله ؛ لأنه مريض ومتعب في نفسه . فالمرض يفسد على الإنسان أحواله ، والإنسان ليس دائماً يكون في صحة ، فالمرض ينتظره كل لحظة. كم من إنسان أصبح نشيطاً صحيحاً وأمسى ضعيفاً مريضاً، بالعكس ؛ أمسى صحيحاً نشيطاً ، وأصبح مريضاً ضعيفاً . فالإنسان يجب عليه أن يبادر إلى الأعمال الصالحة ؛ حذراً من الأمور .
الرابع : ( أو هرماً منفداً ) الهرم : يعني الكبر ،فالإنسان إذا كبر وطالت به الحياة ، فإنه ـ كما قال الله عز وجل ( يرد إلى أرذل العمر ) أي إلى أسوئه وآرائه ، فتجد هذا الرجل الذي عهدته من أعقل الرجال ، يرجع حتى يكون مثل الصبيان ، بل هو أردأ من الصبيان ؛ لأن الصبي لم يكن قد عقل ، فلا يدري عن شيء ، لكن هذا قد عقل وفهم الأشياء ، ثم رد إلى أرذل العمر ، فيكون هذا أشد عليه ؛ ولذلك نجد أن الذين يردون إلى أرذل العمر ـ من كبار السن ـ يؤذون أهليهم أشد من إيذاء الصبيان ؛ لأنهم كانوا قد عقلوا ، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر(40) .
نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الرد إلى أرذل العمر ؛ لأن الإنسان إذا رد إلى أرذل العمر ؛ تعب وأتعب غيره ، حتى إن أخص الناس به يتمنى أن يموت ؛ لأنه آذاه وأتعبه ، وإذا لم يتمن بلسان المقال ؛ فربما يتمنى بلسان الحال .
أما الخامس فالموت المجهز ) : يعني أن يموت الإنسان ، والموت لا ينذر الإنسان قد يموت الإنسان بدون إنذار ، قد يموت على فراشه نائماً ، وقد يموت على كرسيه عاملاً ، وقد يموت في طريقه ماشياً ، وإذا مات الإنسان انقطع عمله ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو لد صالح يدعو له )(41) فبادر بالعمل قبل الموت المجهز ، الذي يجهزك ولا يمهلك .
السادس : ( أو الدجال فشر غائب ينتظر) الدجال : صيغة مبالغة من الدجل ؛ وه الكذب والتمويه ، وهو رجل يبعثه الله ـ سبحانه وتعالى ـ في آخر الزمان ، يصل إلى دعوى الربوبية ، يدعي أنه رب ، فيمكث في فتنته هذه أربعين يوماً ؛ يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كأسبوع ؛ يعني كجمعة . وسائر أيامه كالأيام المعتادة ، لكن يعطيه الله ـ عز وجل ـ من القدرات ما لم يعط غيره ، حتى إنه يأمر السماء فتمطر ، ويأمر الأرض فتنبت ، ويأمر الأرض فتجدب ، والسماء فتقحط : تمنع المطر ، ومعه جنة ونار ، لكنها مموهة ؛ جنته نار ، وناره جنة .
هذا الرجل أعور العين ، كأن عينه عنبة طـافية ، مكتوب بين عينيه ( كافر ) كاف . فاء . راء . يقرؤه كل مؤمن(42) ؛ الكاتب وغير الكاتب ، ولا يقرؤه المنافق ولا الكافر ـ ولو كان قارئاً كاتباً ـ وهذا من آيات الله .
هذا الرجل يرسل الله عليه عيسى ابن مريم عليه الصلاة السلام ، فينزل من السماء فيقتله . كما جاء في بعض الأحاديث بباب لدّ في فلسطين(43) حتى يقضي عليه (44).
فالحاصل أن الدجال شر غائب ينتظر ؛ لأن فتنته عظيمة ؛ ولهذا نحن في صلاتنا ـ في كل صلاة ـ نقول : أعوذ بالله من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال . خصمها ، لأنها أعظم فتنة تكون في حياة الإنسان .
السابع : ( أو الساعة ) يعني قيام الساعة الذي فيه الموت العام ، والساعة أدهى وأمر كما قال الله عز وجل : ( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) (القمر:46) .
فهذه سبع حذر منها النبي عليه الصلاة والسلام ، وأمرنا أن نبادر بالأعمال هذه السبع ، فبادر يا أخي المسلم بأعمالك الصالحة قبل أن يفوتك الأوان ، فأنت الآن في نشاط ، وفي قوة ، وفي قدرة ، لكن قد يأتي عليك زمان لا تستطيع ولا تقدر على العمل الصالح ، فبادر وعود نفسك ، وأنت إذا عودت نفسك العمل الصالح إعتادته ، وسهل علينا وانقادت له ، وإذا عودت نفسك الكسل والإهمال ؛ عجزت عن القيام بالعمل الصالح ، نسأل الله أن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته .