عندليب القرآن_هدية الي الأخ ياسر الحبيب والغالي
(ألم تَرَ أن الله يسجد له مَن في السموات ومَن في الأرض والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدّوابُّ وكثيرٌ من الناس وكثيرٌ حق عليه العذاب، ومَن يُهِنِ الله فما لَه مِن مُكرِم اِن الله يفعلُ ما يشاء)FONT=Simplified Arabic
سنبين جوهرة واحدة فقط من الخزينة العظمى الواسعة لهذه الاية الكريمة، وذلك:
ان القرآن الحكيم يصرح بان كل شئ من العرش الى الفرش، ومن المَلَك الى السمك، ومن المجرات الى الحشرات، ومن السيارات الى الذرات.. كل منها يسجد لله، ويعبده، ويحمده ويقدّسه. الاّ أن عباداتها مختلفة متباينة متنوعة، كلٌ حسب قابلياتها، ومدى نيلها لتجليات الأسماء الحسنى.
نبين هنا تنوّع عبادات المخلوقات وتباينها بمثال:
فمثلاً (ولله المثل الاعلى) أن ملكاً عظيماً وسلطاناً ذا شأن، يستخدم أربعة أنواع من العمال في بناء قصر أو مدينة.
النوع الاول: هم عبيده، هذا النوع لا مرتّب لهم ولا اُجرة. بل ينالون ذوقاً في منتهى اللطف، ويحصلون على غاية الشوق في كل ما يعملونه ويؤدونه بأمر سيّدهم، بل يزدادون مُتعة وشوقاً من أي كلام في مدح سيدهم ووصفه، فحسبُهم الشرف العظيم الذي ينالونه بانتسابهم الى سيدهم. فضلاً عن تلذذهم لذة معنوية اثناء اشرافهم على العمل باسم ذلك المالك، وفي سبيله ونظره اليهم، فلا داعي الى مرتّبٍ ولا الى رتبة ولا الى أجرة.
القسم الثاني: هم خدّام بسطاء، لا يعرفون لماذا يعملون، بل ذلك المالك العظيم هو الذي يستخدمهم ويسوقهم الى العمل بفكره وعلمه، ويعطيهم اجرة جزئية تناسبهم وهؤلاء الخدام لا يعرفون نوع الغايات الكلية والمصالح العظيمة التي تترتب على عملهم، حتى حدا ببعض الناس ان يتوهم ان عمل هؤلاء لا غاية له الاّ اجرة جزئية تخصّهم بالذات.
القسم الثالث: هو الحيوانات التي يملكها ذلك المالك العظيم، ويستخدمها في أعمال بناء القصر والمدينة، ولا يعطيها الاّ علفها. فهذه الحيوانات تتمتع بلذة في اثناء قيامها بعمل يوافق استعداداتها، اذ القابلية أو الاستعداد ان دخلت طور الفعل والعمل بعدما كانت في طور القوة الكامنة، تنبسط وتتنفس، فتورث لذةً، وما اللذة الموجودة في الفعاليات كلها الا نابعة من هذا السر.
فاُجرة هذا القسم من الخدام ومرتّبهم هو العَلف مع لذة معنويةٍ، فهم يكتفون بهما.
القسم الرابع: وهم عمال يعرفون ماذا يعملون، ولماذا يعملون ولمن يعملون. فضلاً عن معرفتهم لِمَ يعمل العمال الآخرون، وما الذي يقصده المالك العظيم ولِمَ يدفع الجميعَ الى العمل؟
فهذا النوع من العمال، لهم رئاسة على العمال الآخرين، والاشراف عليهم، ولهم مرتّباتهم حسب درجاتهم ورتبهم.
وعلى غرار هذا المثال، فان مالك السماوات والارضين ذا الجلال، وباني الدنيا والآخرة ذا الجمال، وهو رب العالمين، يستخدم الملائكة والحيوانات والجمادات والنباتات والانسان في قصر هذا الكون ضمن دائرة الأسباب، ويسوقهم الى العبادة، لا لحاجةٍ، فهو الخالق، بل لأجل إظهار العزة والعظمة وشؤون الربوبية وأمثالها من الحِكَم..
وهكذا فقد كلف هذه الأنواع الاربعة باربعة أنماط مختلفة من العبادة.
القسم الأول: الذين يمثلون العبيد في المثال، هم الملائكة، فهم لا مراتب لهم في الرقي بالمجاهدة، اذ لكل منهم مقام ثابت ورتبة معينة، الاّ ان لهم ذوقاً خاصاً في عملهم نفسه، وهم يستقبلون الفيوض الربانية - حسب درجاتهم - في عبادتهم نفسها.
بمعنى ان اجرة خدماتهم مندرجة في عين أعمالهم؛ اذ كما يتلذذ الانسان من الماء والهواء والضياء والغذاء، كذلك الملائكة، يتلذذون ويتغذّون ويتنعمون بانوار الذكر والتسبيح والحمد والعبادة والمعرفة والمحبة، لانهم مخلوقون من نور، فيكفيهم النور غذاءً، بل حتى الروائح الطيبة القريبة من النور، هي الأخرى نوع من غذائهم حيث يُسرّون بها.
نعم! ان الأرواح الطيبة تحب الروائح الطيبة.
ثم ان للملائكة سعادة عظمى الى درجة لا يدركها عقل البشر ولا يستطيع ان يعرفها الاّ المَلَك نفسه، وذلك فيما يعملون من عمل بأمر معبودهم، وفي الأعمال التي يؤدونها في سبيله، والخدمات التي يقومون بها باسمه، والاشراف الذي يزاولونه بنظره، والشرف الذي يغنمونه بانتسابهم اليه، والتفسح والتنزه الذي ينالونه بمطالعة ملكه وملكوته، والتنعم الذي يحصلون عليه بمشاهدة تجليات جماله وجلاله.
فقسم من الملائكة عبّاد، وآخرون يزاولون عباداتهم في أعمالهم. والقسم العامل من الملائكة الأرضيين شبيه بنوع الانسان - ان جاز التعبير - فمنهم من يؤدي مهمة رعاية الحيوان وهم الرعاة، ونوع آخر لهم الاشراف على نبات الأرض وهم الفلاحون.. بمعنى ان سطح الأرض مزرعة عامة يشرف عليها مَلك موكل بها، أي يشرف على جميع طوائف الحيوانات التي تدبّ على الأرض بأمر الخالق الجليل، وباذنه، وفي سبيله، وبحوله وقوته. وهناك ملك موكل أصغر، للقيام برعاية خاصة لكل نوع من أنواع الحيوانات.
وحيث ان سطح الأرض مزرعة، تزرع فيها أنواع النباتات كلها، فهناك اذن مَلك موكّل للاشراف على تلك النباتات كلها، باسم الله سبحانه، وبقوته، وهناك مَلك أوطأ مرتبة، يشرف على كل طائفة من طوائف النباتات، وهكذا.. فهناك ملائكة مشرفون، وسيدنا ميكائيل عليه السلام الذي هو من حملة عرش الرزاقية؛ هو المشرف الأعظم على هؤلاء الملائكة.
وان الملائكة الذين هم بمثابة الرعاة والفلاحين يختلفون عن الانسان، لأن اشرافهم على الأمور هو عمل خالص في سبيل الله، وباسمه، وبقوته وبأمره، بل ان اشرافهم هو مشاهدة تجليات الربوبية في النوع الذي اُوكل لهم الاشراف عليه.. ومطالعة تجليات القدرة والرحمة فيه.. والقيام بإلهام الأوامر الإلهية اليه.. وأداء ما يشبه التنظيم في أفعاله الاختيارية. ولا سيما الاشراف على النباتات في مزرعة الأرض.. وتمثيل تسبيحاتها المعنوية واعلان تحياتها المعنوية الى فاطرها الجليل بلسان الملائكة.. علاوة على حُسن استعمال الاجهزة الممنوحة لها وتوجيهها الى غايات معينة والقيام بنوع من التنظيم فيها.
وتعدّ هذه الخدمات التي يؤديها الملائكة نوعاً من كسبٍ بالجزء الاختياري، بل هي نوع من العبادة والعبودية، إذ ليس لهم تصرف حقيقي، لأن كل شئ يحمل سكةً خاصة وختماً معيناً لخالق كل شئ لا يمكن لغيره تعالى أن يحشر نفسه في الايجاد قطعاً.
أي ان هذا النوع من عمل الملائكة هو عباداتهم؛ اذ ليس هي عادات كما هي في الانسان.
القسم الثاني: من العمال في قصر الكون، هو الحيوانات.
وحيث ان الحيوانات لها نفس مشتهية، واختيار جزئي، فلاتكون أعمالها خالصة لوجه الله. بل تستخرج النفسُ حظها، وشهوتَها من عملها ، لذا يمنح مالك الملك ذو الجلال والاكرام ، تلك الحيوانات أجرة ومرّتباً ضمن أعمالها ، تُطمئن نفوسها وتشبعها
فمثلا: البلبل المعروف بعاشق الورود والأزهار[1]، يستخدم الفاطرُ الجليل ذلك الحيوان الصغير ويستعلمه في خمس غايات:
اولاها: انه مأمور ومكلّف - باسم القبائل الحيوانية - باعلان شدة العلاقة تجاه طوائف النباتات.
ثانيتها: انه موظف باعلان الفرح والسرور، والترحيب بالهدايا المرسلة من قبل الرزاق الكريم، حيث انه خطيب رباني يسأل بتغريده أرزاق الحيوانات - ضيوف الرحمن - المحتاجين الى الرزق.
ثالثتها: اظهار حسن الاستقبال على رؤوس النباتات جميعاً، تعبيراً عن ارسال النباتات امداداً لبني جنسه من الطير والحيوان.
رابعتها: بيان شدة حاجة الحيوانات الى النباتات التي تبلغ حدّ العشق تجاه الوجوه المليحة للنباتات واعلانها على رؤوس الاشهاد.
خامستها: تقديم ألطف تسبيحٍ الى ديوان رحمة مالك الملك ذي الجلال والاكرام في ألطف شوق ووجد، وفي ألطف وجه، وهو الورد.
[1]لما كان البلبل يغرّد تغريداً شاعرياً فان بحثنا هذا قد انساب فيه شئ من روح الشاعرية، الاّ انه ليس بخيال بل حقيقة. - المؤلف.
وهكذا هناك معان أخرى شبيهة بهذه الغايات الخمس.
فهذه المعاني وهذه الغايات هي الغاية من عمل البلبل الذي يقوم به لأجل الحق سبحانه وتعالى. فالبلبل يغرّد بلغته ونحن نفهم هذه المعاني من نغماته الحزينة، مثلما يفهمها ايضاً الملائكة والروحانيات. وان عدم فهم البلبل لمعنى نغماته معرفة كاملة ليس حائلاً امام فهمنا نحن لذلك، ولا يقدح فيه، والمثل: "رُب مستمع أوعى من متكلم" مشهور.
ثم ان عدم معرفة البلبل لهذه الغايات بالتفصيل لا يدل على عدم وجودها، فهو في الأقل كالساعة التي تعرّفك أوقاتك وهي لا تعلم شيئاً مما تعمل. فجهلُها لا يضر بمعرفتك.
اما مرتّب ذلك البلبل ومكافأته الجزئية فهي الذوق الذي يحصل عليه من مشاهدة تبسّم الأزهار الجميلة، والتلذذ الذي يحصل عليه من محاورتها.
أي ان نغماته الحزينة وأصواته الرقيقة ليست شكاوى نابعة من تألمات حيوانية، بل هي شكر وحمد وثناء تجاه العطايا الرحمانية.
وقس على البلبل؛ بلابل النحل والعنكبوت والنمل والهوام والحيوانات الصغيرة، فلكل منها غايات كثيرة في أعمالها، ُادرج فيها ذوق خاص، ولذة مخصوصة، كمرتّب وكمكافئة جزئية، فهي تخدم غايات جليلة لصنعة ربانية بذلك الذوق. فكما ان لعامل بسيط في سفينة السلطان مرتّبهُ الجزئي، كذلك لهذه الحيوانات التي تخدم الخدمات السبحانية مرتّبها الجزئي.
تتمة لبحث البلبل:
لا تحسبنّ ان هذه الوظيفة الربانية في الاعلان والدلالة والتغني بهزجات التسبيحات خاص بالعندليب. بل ان لكل نوع من أكثر انواع المخلوقات صنفاً شبيهاً بالعندليب، له فرد لطيف أو أفراد يمثلون ألطف مشاعر ذلك النوع ويتغنى بألطف التسبيحات بألطف السجعات، ولا سيما أنواع الهوام والحشرات، فبلابلها كثيرة، وعنادلها متنوعة جداً، تُمتّع جميع مَن له آذان صاغية اليهم بدءاً من أصغر حيوان الى أكبره، وتنثر على رؤوسهم تسبيحاتها بأجمل نغماتها.
وقسم من هذه البلابل ليلي، يكونون الأنيس المحبوب والقاصّ المؤنس في ذلك الليل الساكن والموجودات الصامتة، للحيوانات الصغيرة التي خلدت الى الهدوء، حتى كأن كلاً من تلك البلابل قطبٌ في حلقة ذكر خفي وسط ذلك المجلس الذي انسحب كل فرد فيه الى الهدوء والسكون ينصت الى نوع من ذكر الله وتسبيحه، بقلبه المطمئن الى الفاطر الجليل.
وقسم آخر من هذه البلابل نهاري، يعلنون في وضح النهار رحمة الرحمن الرحيم على منابر الاشجار وعلى رؤوس الاشهاد، ويتغنون بها، ولا سيما في موسم الصيف والربيع، وينثرون بتغريداتهم الرقيقة وشَدوِهم اللطيف وتسبيحاتهم المسجّعة الوجدَ والشوق، لدى كل سامع لهم، حتى يشرع السامع بذكر فاطره الجليل بلسانه الخاص، وبنغماته الخاصة.
بمعنى ان لكل نوع من أنواع الموجودات بلبله الخاص به، فهو رئيس حلقة ذكر خاص بهم. بل حتى لنجوم السماء بلبلها الخاص بها، يشدو بأنواره ويترنم باضوائه.
ولكن.. أفضل هذه البلابل طراً وأشرفها وأنورها وابهرها واعظمها وأكرمها، واعلاها صوتاً واجلاها نعتاً واتمّها ذكراً واعمّها شكراً وأكملها ماهية واحسنها صورة، هو الذي يثير الوجدَ والجذب والشوق في الأرض والسماوات العلى، في بستان هذا الكون العظيم، بسجعاته اللطيفة وتضرعاته اللذيذة، وتسبيحاته العلوية.. وهو العندليب العظيم لنوع البشر، في بستان الكائنات، بلبل القرآن لبني آدم، محمد الأمين، عليه وعلى أله وامثاله، أفضل الصلوات واجمل التسليمات.
خلاصة ما سبق: ان الحيوانات الخادمة في قصر الكون تمتثل الأوامر التكوينية امتثالاً تاماً، وتظهر ما في فطرتها من غايات بأجمل صورتها باسم الله. فتسبيحاتها؛ هي قيامها بوظائف حياتها بأبدع طراز بقوة الله سبحانه، وببذل الجهد في العمل. وعباداتها؛ هي هداياها وتحياتها التي تقدمها الى الفاطر الجليل واهب الحياة.
القسم الثالث من العمال: هم النباتات والجمادات.. هؤلاء العمال لا مرتّب لهم ولا مكافأة، لأن لا اختيار لهم، فاعمالهم خالصة لوجه الله. وحاصلة بمحض ارادته سبحانه وباسمه وفي سبيله، وبحوله وقوته. الاّ انه يُستشعر من أحوال النباتات ان لها نوعاً من التـلذذ في ادائها وظائف التلقيح والتوليد وانماء الثمار. الاّ انها لا تتألم قط، بخلاف الحيوانات التي لها آلام ممزوجة باللذائذ، حيث ان لها اختياراً. ولأجل عدم تدخل الاختيار في أعمال النباتات والجمادات تكون اثارهما أتقن وأكمل من أعمال الحيوانات التي لها اختيار. وفي النحل - مثلاً - التي تتنور بالوحي والالهام، يكون الاتقان في الاعمال أكمل من حيوان آخر يعتمد على جزئه الاختياري.
وكل طائفة من طوائف النباتات في مزرعة الأرض تسأل من فاطرها الحكيم وتدعوه بلسان الحال والاستعداد، قائلة:
يا ربنا آتنا من لدنك قوة، كي ننصب راية طائفتنا في أرجاء الأرض كافة، لنعلن بلساننا عظمة ربوبيتك.. ووفقنا يا ربنا لعبادتك في كل ركن من أركان مسجد الأرض هذا.. وهب لنا قدرة لنسيح في كل ناحية من نواحي معرض الأرض لنشهر فيها نقوش أسمائك الحسنى وبدائع صنعك وعجائبها.
والفاطر الحكيم يستجيب لدعاء النباتات المعنوي هذا، فيهَب لبذور طائفة منها جُنيحات من شعيرات دقيقة لتتمكن بها من الطيران الى كل مكان، فتجعل الناظر اليها يقرأ أسماء الله الحسنى كما في أغلب النباتات الشوكية وقسم من بذور الأزهار الصفراء، ويهب سبحانه لآخر نسيجاً طرياً طيباً يحتاجه الانسان ويرتاح اليه، حتى يجعل الانسان خادماً له، فيزرعه في كل ناحية.. ويهب لطائفة اخرى ما لا يهضم من شبيه العظام مكسواً بما يشبه اللحم تستسيغه الحيوانات، فتنشرها في اقطار الأرض.. ويهب لبعضٍ شويكات دقيقة تتعلق بالأشياء بأدنى تماس. وبهذا ينتقل من مكان الى آخر فينشر راية طائفته هناك.
وهكذا تنشر النباتات بدائع صنع الله سبحانه وتعالى فيهب لقسم آخر علباً مملوءة بالبذور تقذف بها الى مسافة أمتار حين نضوجها..
وقس على هذا المنوال كيف تستنطق النباتات ألسنة كثيرة في ذكر الفاطر الجليل وفي تقديسه. فلقد خلق الفاطر الحكيم والقدير العليم، كل شئ، في أحسن صورة، وفي اكمل انتظام، وجهّزه بأفضل جهاز، ووجّهه الى أحسن وجهة، ووظفه بأحسن وظيفة، فيقوم الشئ بأفضل التسبيحات واجملها، ويؤدي العبادات على أفضل الوجوه.
فان كنت أيها الانسان انساناً حقاً، فلا تقحم الطبيعة والمصادفة والعبثية والضلالة في هذه الأمور الجميلة، ولا تشوّه جمالها بعملك القبيح، فتكون قبيحاً.
القسم الرابع: هو الانسان، فالانسان الذي هو نوع من أنواع الخدم العاملين في هذا القصر، قصر الكون، هذا الانسان شبيه بالملائكة من جهة، وشبيه بالحيوان من جهة اخرى، اذ يشبه الملائكة في العبادة الكلية وشمول الاشراف واحاطة المعرفة وكونه داعياً الى الربوبية الجليلة، بل الانسان هو اكثر جامعية من الملائكة، لأنه يحمل نفساً شريرة شهوية - بخلاف الملائكة - وأمامه نجدان، له ان يختار، اما رقياً عظيماً أو تدنياً مريعاً. ووجه شبه الانسان بالحيوان هو انه يبحث في أعماله عن حظٍ لنفسه، وحصةٍ لذاته، لذا فالانسان له مرتّبان:
الأول: جزئي حيواني معجل
والثاني: كلي ملائكي مؤجل
ولقد ذكرنا في الكلمات الثلاث والعشرين السابقة قسماً من مكافأة ومرتّب الانسان ووظائفه، ومدارج رقيه وتدنيه، ولا سيما في الكلمة "الحادية عشرة والثالثة والعشرين" اذ فيهما تفصيل بيان، لذا نختصر هذا البحث ونختم بابه سائلين العلي القدير ان يفتح علينا أبواب رحمته ويوفقنا الى اتمام هذه الكلمة، راجين منه سبحانه وتعالى ان يعفو عن سيئاتنا ويغفر لنا خطايانا.
بديع الزمان سعيد النورسي