(وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ)
"لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير"[1]
[ان هذه الجملة التي تلخص التوحيد، عبارة عن احدى عشرة كلمة، ولقراءتها عقب صلاتي الفجر والمغرب فضائل جمة، حتى وردت في احدى الروايات الصحيحة انها تحمل مرتبة "الاسم الأعظم". فلا غرو اذن أن تقطر كل كلمة من كلماتها أملاً شافياً وبشرى سارة، وان تحمل مرتبة جليلة من مراتب توحيد الربوبية، وتبين من زاوية الاسم الاعظم كبرياء الوحدانية وكمال التوحيد.
وحيث أن هذه الحقائق الواسعة الرفيعة قد وضحت بجلاء في سائر "الكلمات" فنحيل اليها. ونكتفي هنا بوضع فهرس لها - بناء على وعد سابق - على صورة خلاصة مجملة جداً، تتكون من "مقامين" و "مقدمة"].
[1]"كان صلى الله عليه وسلم يقول في دُبر كل صلاة مكتوبة [حين يسلم]: لاإله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد (يحيي ويميت، وهو حي لايموت بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير). "ثلاث مرات " اللهم لامانع لما اعطيت ولامعطي لما منعت ولاينفع ذا الجدّ منك الجدّ./ صحيح: انظر تفصيل التخريج وعزو هذه الزيادات في الاحاديث الصحيحة (196) - الاحاديث التي هي خارج الاقواس موجودة في البخاري ومسلم. والزيادة الاولى المحصورة بين القوسين لأحمد وابي داود، والثانية للطبراني والثالثة للنسائي وابي خزيمة. أقول: وهذا الحديث الذي أورده الاستاذ النورسي من العجائب، اذ عندما تتبعت احاديث الورد في الصباح والمساء وبعد الصلاة وجدتها تختلف بالسياق. وجمع الزيادات بهذه الطريقة صعبة للغاية تحتاج الى مصادر واسعة وطول باع في الحديث، فياترى ما تفسير ايراد الاستاذ لهذا النص وبتلك الزيادات دونما رجوع او توفر مصادر كالتي يمتلكها المحدّثون.. ان التفسير الوحيد هو: إكرام إلهي.
كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.
" الكلمة الأولى: "لا إله إلا الله"
هذه الكلمة تتقطر بشرى عظيمة واملاً بهيجاً كالآتي:
ان روح الانسان المتلهفة الى حاجات غير محدودة، والمستهدفة من قبل اعداء لا يُعدّون.. هذه الروح المبتلاة بين حاجات لا تنتهي واعداء لا يحصرون، تجد في هذه الكلمة العظيمة منبعاً ثراً من الاستمداد، بما يفتح لها ابواب خزائن رحمة واسعة ترد منها ما يطمئن جميع الحاجات وتضمن جميع المطاليب.. وتجد فيها كذلك مرتكزاً شديداً ومستنداً رضياً يدفع عنها جميع الشرور، ويصرف عنها جميع الاضرار. وذلك بما تري الانسان من قوة مولاه الحق، وترشده الى مالكه القدير، وتدله على خالقه ومعبوده. وبهذه الرؤية السديدة والتعرف على الله الواحد الأحد، تنقذ - هذه الكلمة - قلب الانسان من ظلام الوحشة والاوهام، وتنجي روحه من آلام الحزن والكمد، بل تضمن له فرحاً ابدياً، وسروراً دائماً.
هذه الكلمة تشرق املاً وتزف بشرى سارة كالآتي:
ان روح البشر، وقلبه المرهقين بل الغارقين الى حد الاختناق تحت ضغوط ارتباطات شديدة واواصر متينة مع اغلب انواع الكائنات، يجدان في هذه الكلمة ملجأ اميناً، ينقذهما من تلك المهالك والدوامات. أي أن كلمة "وحده" تقول معنىً:
ان الله واحد أحد، فلا تتعب نفسك - ايها الانسان - بمراجعة الأغيار. ولا تتذلل لهم، فترزح تحت منتهم وأذاهم.. ولا تحني رأسك امامهم وتتملق لهم.. ولا ترهق نفسك فتلهث وراءهم.. ولا تخف منهم وترتعد أزاءهم.. لأن سلطان الكون واحد، وعنده مفاتيح كل شئ، بيده مقود كل شئ، تنحل عقد كل شئ بأمره، وتنفرج كل شدة باذنه.. فان وجدته فقد ملكت كل شئ، وفزت بما تطلبه، ونجوت من أثقال المن والاذى ومن أسر الخوف والوهم.
" الكلمة الثالثة: "لا شريك له"
اي: كما لاندّ له ولا ضد في الوهيته لأن الله واحد، فان ربوبيته واجراءاته وايجاده الاشياء منزهة كذلك من الشرك. بخلاف سلاطين الأرض، اذ يحدث أن يكون السلطان واحداً متفرداً في سلطنته الاّ انه ليس متفرداً في اجراءاته، حيث أن موظفيه وخدمه يعدّون شركاء له في تسيير الامور وتنفيذ الاجراءات، ويمكنهم ان يحولوا دون مثول الجميع أمامه، ويطلبوا منهم مراجعتهم اولاً! ولكن الحق سبحانه وتعالى وهو سلطان الازل والابد، واحد لا شريك له في سلطنته، فليس له حاجة قط في اجراءات ربوبيته ايضاً الى شركاء ومعينين للتنفيذ، اذ لا يؤثر شئ في شئ الاّ بأمره وحوله وقوته، فيمكن للجميع ان يراجعوه دون وسيط، لعدم وجود شريك أو معين. ولا يقال عندئذٍ للمراجع: لا يجوز لك الدخول في الحضرة الإلهية.
وهكذا تحمل هذه الكلمة في طياتها أملاً باسماً وبشارة بهيجة، فتقول:
ان الانسان الذي استنارت روحه بنور الايمان، ليستطيع عرض حاجاته كلها بلا حاجز ولا مانع بين يدي ذلك الجميل ذي الجلال، ذلك القدير ذي الكمال، ويطلب ما يحقق رغباته، اينما كان هذا الانسان وحيثما حلّ. فيفرش حاجاته ومطاليبه كلها امام ذلك الرحيم الذي يملك خزائن الرحمة الواسعة، مستنداً الى قوته المطلقة، فيمتلى عندئذ فرحاً كاملاً وسروراً غامراً.
" الكلمة الرابعة: "له الملك"
أي ان الملك كله له، دون استثناء.. وانت.. ايضاً ملكه، كما انك عبده ومملوكه، وانت عامل في ملكه..
فهذه الكلمة تفوح املاً وتقطر بشرى شافية، وتقول:
أيها الانسان! لا تحسب انك مالك نفسك.. كلا.. لانك لا تقدر على أن تدير امور نفسك.. وذلك حمل ثقيل، وعبء كبير، ولا يمكنك ان تحافظ عليها، فتنجيها من البلايا والرزايا، وتوفر لها لوازم حياتك.. فلا تجرّع نفسك اذن الآلام سدىً، فتلقي بها في احضان القلق والاضطراب دون جدوى، فالملك ليس لك، وانما لغيرك، وذلك المالك قادر، وهو رحيم. فاستند الى قدرته، ولا تتهم رحمته.. دع ما كدر، خذ ما صفا.. انبذ الصعاب والاوصاب وتنفـس الصعـداء، وحز على الـهـنـاء والسعادة.
وتقول ايضاً:
ان هذا الوجود الذي تهواه معنىً، وتتعلق به، وتتألم لشقائه واضطرابه، وتحس بعجزك عن اصلاحه.. هذا الوجود كله مُلك لقادر رحيم. فسلّم الملك لمولاه، وتخلّ عنه فهو يتولاه، واسعد بمسراته وهنائه، دون أن تكدرك معاناته ومقاساته، فالمولى حكيم ورحيم، يتصرف في ملكه كيف يشاء وفق حكمته ورحمته.
واذا ما اخذك الروع والدهشة، فأطل من النوافذ ولا تقتحمها، وقل كما قال الشاعر ابراهيم حقي[1]:
لنرَ المولى ماذا يفعلُ
فما يفعل هو الأجمل.
الكلمة الخامسة: "له الحمد"
أي أن الحمد والثناء والمدح والمنة خاص به وحده، ولائق به وحده، لأن النعم والآلاء كلها منه وحده، وتفيض من خزائنه الواسعة، والخزائن دائمة لا تنضب.
وهكذا تمنح هذه الكلمة بشرى لطيفة، وتقول:
أيها الانسان! لا تقاسي الالم بزوال النعمة، لأن خزائن الرحمة لا تنفد، ولا تصرخ من زوال اللذة، لأن تلك النعمة ليست الاّ ثمرة رحمة واسعة لا نهاية لها. فالثمار تتعاقب ما دامت الشجرة باقية.
واعلم ايها الانسان انك تستطيع ان تجعل لذة النعمة اطيب واعظم منها بمائة ضعف، وذلك برؤيتك إلتفاتة الرحمة اليك، وتكرمها عليك، وذلك بالشكر والحمد. اذ كما ان ملكاً عظيماً وسلطاناً ذا شأن اذا ارسل اليك هديةً - ولتكن تفاحة مثلاً - فان هذه الهدية تنطوي على لذة تفوق لذة التفاح المادية باضعاف الاضعاف، تلك هي لذة الالتفات الملكي والتوجّه السلطاني المكلل بالتخصيص والاحسان، كذلك كلمة "له الحمد" تفتح امامك باباً واسعاً تتدفق منه لذة معنوية خالصة هي ألذ من تلك النعم نفسها بألف ضعف وضعف، وذلك بالحمد والشكر، أي: بالشعور بالإنعام عن طريق النعمة، أي: بمعرفة المنعم بالتفكر في الإنعام نفسه، أي: بالتفكر والتبصر في التفات رحمته سبحانه وتوجـهه اليك وشـفقته علـيـك، ودوام انـعامه عليك.
أي: هو الذي يهب الحياة، وهو الذي يديمها بالرزق، وهو المتكفل بكل ضروراتها وحاجاتها، وهو الذي يهيئ لوازمها ومقوماتها. فالغايات السامية للحياة تعود اليه، والنتائج المهمة لها تتوجه اليه، وتسع وتسعون بالمائة من ثمراتها ونتائجها تقصده وترجع اليه.
وهكذا فهذه الكلمة تنادى هذا الانسان الفاني العاجز، وتزجي له البشارة، نافخة فيه روح الأمل، وتقول:
ايها الانسان!
لا ترهق نفسك بحمل اعباء الحياة الثقيلة على كاهلك الضعيف، ولا تذهب نفسك حسرات على فناء الحياة وانتهائها. ولا تظهر الندم والتذمر من مجيئك الى الحياة كلما ترى زوال نعيمها وتفاهة ثمراتها.. واعلم ان حياتك التي تعمر وجودك انما تعود الى "الحي القيوم" فهو المتكفل بكل حاجاتها ولوازمها.
فهذه الحياة تعود اليه وحده، بغاياتها الوفيرة، ونتائجها الكثيرة. وما أنت الاّ عامل بسيط في سفينة الحياة. فقم بواجبك أحسن قيام، ثم اقبض اجرتك وتمتع بها، وتذكر دائماً: مدى عِظمَ هذه الحياة التي تمخر عباب الوجود، ومدى جلالة فوائدها، وثمراتها، ومدى كرم صاحبها وسعة رحمة مولاها.. تأمل ذلك واسبح في فضاء السرور، واستبشر به خيراً، وادّ شكر ما عليك تجاه مولاك. واعلم بأنك ان إستقمتَ في اعمالك تسجّل في صحيفتها اولاً نتائج سفينة الحياة هذه، فتوهب لك حياة باقية، وتحيا حياة ابدية.